مقالات الرأى

د. محمد عبد الرحيم البيومي يكتب : وصحبتُ الحكمة في أسفاري

متابعات يوتوبيا

 

 

لعل الغربة تقترن في الأذهان بالكربة، وتقلب الأحوال دائماً ما يمتزج بالحل والترحال ، وهنا يعيش الإنسان في ظل غربة فوق غربة ، غربة الأوطان التي تعلوها غربة النفس وذوبان الذات ، هنا يحتاج الإنسان إلى الصديق ليكون خير معين له في وقت الضيق ، فلا يجد إلا وصايا الحكماء والمخلصين تصحبه في الأسفار ليتخذ منها زاداً به يتفاعل مع مجريات الليل والنهار ، وليس أخلص للإنسان من نفسه التي تأبى أن يتميز عليها أحد إلا جزء منها ، وليس جزء النفس والذات سوى ابن يُعقد عليه أمل يرتجى ، أو أب وأم يلتمس من حكمتهما وإخلاص محبتهما ما يُعين على تخطي العقبات وظلم الشدائد . فيحكي الأصمعي أنه مر ذات يوم على امرأة وقد أوقفت بين يديها ابناً لها يريد السفر، فأرادت أن تهبه من خلاصة تجاربها ، ووافر خبرتها وحكمتها ما يكون زاداً له في سفره ، ويا له من خير زاد . إذ قالت له موصية إياه “ إياك والنمائم فإنها تزرع الضغائن . ولا تجعل نفسك غرضاً للرماة ، فإن الهدف إذا أرمى لم يلبث أن ينثلم ، ومثل لنفسك مثالاً : فما استحسنته من غيرك فاعمل به ، وما كرهته منه فدعه . وإذا هززت فهز كريماً ، فإن الكريم يهتز لهزتك . وإياك واللئيم فإنه صخرة لا ينفجر ماؤها . وإياك والغدر فإنه أقبح ما تعومل به . وعليك بالوفاء . ففيه النماء . وكن بمالك جواداً ، وبدينك شحيحاً . وانهض يا بني على اسم الله “ . ولعلنا نلحظ في ظل هذه الدرر النفيسة من لألئ الكلمات ما للأم من دور تربوي لا يقف مع بنيها عند حد الصغر ، وإنما تظل مهمومة بهم وإن بلغوا الكبر ، فتبثهم من صدق نصحها ، وخالص مشاعرها ما يعينهم على مواجهة ذلك المجهول الذي ينتظرهم في الغربات والأسفار من حوادث الأكوان وطبائع الناس . ولعلنا نلحظ هنا أن الوالدة قد استخدمت في توجيه ابنها أسلوب التربية بالوعظ والإرشاد وهو أسلوب تربوي له موقعه في كتاب الله ، إذ يُُعرف الوعظ التربوي بأنه “ نصح وتذكير بالخير والحق على الوجه الذي يرق له القلب ، وفى الوقت ذاته يبعث على العمل “ . ومن ثم كان قول الله سبحانه وتعالى – بعد ذكر عدداً من الأحكام والحدود المقترنة بالحكم والترغيب والترهيب – “ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ” البقرة 232 . ونلمح في ذلك أن الوعظ والنصح التربوي يحمل في طيه عدداً من المعاني منها : 1-النصح : وهو بيان الحق والمصلحة نبتغي من ورائها أن يتجنب من تبذل له مواطن الذلل وغوائل الخطر ، وفى الوقت ذاته تعود عليه بالسعادة في الدنيا والآخرة . ودليل ذلك أن النصح التربوي الصادق هو الذي يخلو من المصالح الدنيوية والأغراض المادية الشخصية ، وهذا هو طريق الأنبياء الذي ينبغي أن يتأسى به المربون في كل وقت وحين “ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ” الشعراء: 109 ، 127 . وليس كل نصح يؤتى أكله التربوي ، وإنما يحفر النصح في أعماق الذات نبل القيم وسمو الأخلاق إذا تحرى فيه صاحبه الصدق والأمانة ، وهذا ما دل عليه قول هود لقومه “ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ “ الأعراف: 68 . 2-التذكير : وهو معنى من معاني المواعظ والحكم يعيد من خلاله الواعظ المعاني والذكريات التي تستنهض الهمم ، وتوقظ المشاعر والوجدان ، فتسوق صاحبها بدوافع الإيمان للمبادرة إلى العمل الصالح ، والمسارعة إلى المغفرة من الله تعالى ، ورضوان في جنة عرضها السموات والأرض ، وهذا يقتضى أن يكون في ذكريات من يتوجه النصح إليهم ووجدانه كم من المشاعر الإيمانية توقظ في نفسه ما اندثر فيها من حدود الله عز وجل . ولعل هذا ما يشير إليه قول الحق سبحانه وتعالى” ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ “ الطلاق: 2 . وبهذا التذكير التربوي تكون الثمرة المرجوة من إيقاظ العواطف الربانية القائمة على الخضوع لله ، والرغبة في جنته ، والخوف من عذابه . أضف إلى ذلك ما يحدث في النفس من تزكية وتطهير لها ليتحقق بذلك المقصد الأسمى من رسالة النبي صلى الله عليه وسلم الذي عبر عنه الحق سبحانه وتعالى بقوله “ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ” الجمعة: 2 .

أ د. محمد عبد الرحيم البيومي عميد كلية أصول الدين والدعوة بالزقازيق –جامعة الأزهر الشريف

زر الذهاب إلى الأعلى