مقالات للرأي

د دعاء شكري تكتب: الإحصاء وتاريخ التعدادات في مصر

 

تهدف النظم الإجتماعية والسياسية لإشباع حاجات السكان وإستمرار تقدم المجتمعات بالتخطيط الواعى لاستخدام الإمكانيات المتاحة وصولاً للأهداف والغايات المستهدفة. ويتطلب التخطيط والمتابعة الاستناد إلي الحقائق من خلال البيانات والإحصاءات الإجتماعية والاقتصادية .
وتتمثل أهمية علم الإحصاء في ارتباطه الوثيق بحياة البشر كوسيلة وحيدة لرصد قيم محددة للظواهر المختلفة المحيطة والمؤثرة في حياتهم. وكذا ارتباطه الوثيق بالعلوم الإنسانية الأخري .
وقد وعت الدولة المصرية تلك الحقائق منذ قديم الزمان؛ فاهتم المصريون منذ عصر الفراعنة بالإحصاء والتعداد لحصر السكان وانتشارهم وكذا مصادر الثروة المتاحة ولا تزال نتائج تلك الأنشطة باقية على جدران المعابد والآثار إلى الآن.
1. عصر الفراعنة (قبل 3150 ق.م. – 332 ق.م.):
تعد الحضارة المصرية القديمة من أسبق الحضارات حرصا على معرفة التعداد السكاني، وعرفت مصر الفرعونية التعداد السكاني منذ القدم، وكان جزءاً مهماً من نظام الإدارة والحكم، وأجري أول تعداد سكاني في عام3440 قبل الميلاد استنادًا إلى الأدلة الأثرية والنصوص التاريخية المدونة على جدران المعابد وقد وجدت سجلات إحصائية تعود إلى عهد الملك خوفو (حوالي 2580 ق.م.) تتضمن تعدادات للماشية.

د دعاء شكري تكتب: الإحصاء وتاريخ التعدادات في مصر

وأجرى المصريين القدماء التعداد السكاني ليس كل عام فقط، وإنما مع كل عمل كانوا يقومون به، وتعددت أغراض إجراء التعداد وكان من أهمها تقييم القوي العاملة لتنظيم العمالة للمشاريع الكبرى مثل بناء الأهرامات والمعابد ، والاستعداد للعمليات الحربية، وخوض المعارك، وبناء على بيانات التعداد كان المصريون يضعون خطط الحروب.
كما كانت التعدادات تجرى كل عامين في بعض الفترات، وعرف هذا بما يسمى بـ “تعداد الماشية” الذي كان يشمل أيضًا إحصاء البشر والممتلكات، وسجل الكتبة المعلومات على أوراق البردي واستخدموا الرموز الهيروغليفية لتسجيل الأعداد والمعلومات. وشمل التعداد عد السكان، والماشية، والأراضي الزراعية، وفي بعض الحالات، تضمن أيضًا تقييم الثروة والممتلكات.
ساعد التعداد في تنظيم نظام الضرائب واستخدم لتخطيط المشاريع الكبرى وتوزيع الموارد، وتم العثور على سجلات تعداد في مقابر بعض الموظفين الحكوميين وتشير النقوش في المعابد والمقابر إلى عمليات إحصاء السكان والموارد واكتسبت عملية التعداد أهمية دينية وطقسية إضافة إلى أهميتها الإدارية، كما ساهم التعداد في تشكيل الهيكل الاجتماعي والاقتصادي للمجتمع المصري القديم وكان مؤشراً على مستوى التنظيم الإداري المتقدم وأهمية جمع البيانات في مصر الفرعونية.
2. العصر اليوناني الروماني (332 ق.م. – 641 م):
استمر إجراء التعدادات والإحصاءات في مصر خلال الحقبة اليونانية الرومانية، لأغراض جباية الضرائب. ومن الوثائق المهمة في هذه الفترة “إحصاء السكان” الذي أجراه الإمبراطور “أوغسطس” عام 10 ميلادية ويعد أقدم تعداد سكاني كامل في التاريخ.
3. العصر الإسلامي (641 م – 1517 م):
اعتمد الحكام المسلمون في مصر على الإحصاءات لإدارة شؤون الدولة وجباية الضرائب وتوزيع الإقطاعات. وقد أجرى الخليفة المأمون (813-833 م) مسحًا شاملاً للأراضي الزراعية بغرض تقدير الضرائب بناءً على خصوبة التربة ونوع المحاصيل.
4. العصر العثماني (1517 م – 1867 م):
خلال الحكم العثماني، استمر إجراء إحصاءات السكان والزراعة، لكن بشكل أقل انتظاماً. وأُجري أول تعداد رسمي للسكان في عام 1800 في عهد محمد علي باشا، وذلك لجمع الضرائب من المصريين بكافة طوائفهم، حيث بلغ عدد السكان آنذاك نحو 3 ملايين نسمة، ولكن يُعتقد أن هذا الرقم كان أقل من العدد الفعلي بسبب صعوبة عملية الإحصاء في ذلك الوقت وعدم شمول بعض الفئات السكانية.
5. عصر الخديوي إسماعيل وبدايات مصر الحديثة (1867 م – 1914 م):
أُنشئت “مصلحة عموم الإحصاء” عام 1870 في عهد الخديوي إسماعيل لإجراء إحصاءات السكان والزراعة والصناعة وغيرها. وقد أُجري أول تعداد سكاني شامل ذو معايير حديثة في مصر عام 1882 وسُمي بـ”تعداد النفوس” وبلغ عدد السكان آنذاك 6.8 مليون نسمة، كما صدر أول كتاب إحصائي سنوي عام 1909.
6. العصر الحديث (1914 م – حتى الآن2024):
أُنشئت كلية الإحصاء في جامعة القاهرة عام 1946 لتعليم علوم الإحصاء (وسًميت بمعهد الدراسات والبحوث الإحصائية في فترة الستينيات) ثم في عام 2019 تغير اسمها لتصبح (كلية الدراسات العليا للبحوث الإحصائية)، كما تم إنشاء “الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء” عام 1964 ليكون الجهة الرسمية المسؤولة عن جمع ومعالجة ونشر الإحصاءات والبيانات في مصر، وإجراء التعدادات السكانية المنتظمة كل عشر سنوات ليصبح تعداد عام2017 التعداد الرابع عشر في تاريخ التعدادات المصرية.
باختصار، يمتد تاريخ علم الإحصاء والتعداد في مصر إلى عصر الفراعنة ويعكس مدى اهتمام الحضارة المصرية على مر العصور بتوثيق المعلومات الديموغرافية والاقتصادية وإدارة شؤون الدولة بناءً على بيانات دقيقة.
و في الختام يمكن القول بأن الحضارة المصرية القديمة قد إهتمت على مر العصور بتوثيق المعلومات الديموجرافية والاقتصادية وإدارة شؤون الدولة بناءً على بيانات دقيقة ترصد وتسجل الأنشطة الإحصائية التي تثبت عراقة واستنارة النظم المصرية خلال الثلاث قرون الماضية.

د دعاء شكري تكتب: الإحصاء وتاريخ التعدادات في مصر

زر الذهاب إلى الأعلى