مقالات الرأى

د. أيمن الأعصر يكتب: الدور الثقافي المصري مع إفريقيا

إنّ العلاقات المصرية و العربية الإفريقية علاقات لها جذور عميقة مبنية على أسس مشتركة تاريخية وجغرافية وثقافية ودينية واجتماعية وسياسية واقتصادية مما يؤكد عُمْق هذه العلاقات المشتركة منذ القِِدَمْ وحتى وقتنا الراهن ، ولقد أثبتت أدلة كثيرة أن العرب قد عرفوا طريقهم إلى سواحل شرق إفريقيا قبل ظهور الإسلام، ثم ترسخت أقدامهم فيها على مر الأزمان ، إذ لا يفصل بينها وبين الجزيرة العربية سوى البحر الأحمر. وقد ترتب على ذلك انتشار الثقافة العربية الإسلامية على امتداد سواحل شرق أفريقيا ’ ونشأت مدن تتسم بطابعها العربي الإسلامي في العديد من مناحي الحياة، وانعكس ذلك في معظم مظاهر الحياة من ملبس ومأكل وعادات وتقاليد عربية إسلامية، ومن ثَمَّ جاء ذلك الأثر في اللغة السواحلية وآدابها على وجه الخصوص ’ ولقد ساعد على ذلك الرياح الموسمية الشمالية الشرقية التي تهب إلى الجنوب الغربي في الفترة من ديسمبر إلى مارس، والرياح الموسمية الجنوبية الغربية التي تهب إلى الشمال الشرقي في الفترة من يونيو إلى أكتوبر. وقد استفاد التجار العرب من هذه الظاهرة الجغرافية واستقروا على سواحل شرق إفريقيا منذ وقت مبكر جدا ، وقد استمروا على هذا المنوال لأكثر من ألف عام وبما أن دورة هذه الرياح كانت تجبرهم على الانتظار بهذه السواحل لفترة قد تمتد لأكثر من ثلاثة أشهر لحين تغير اتجاه هبوبها، فقد ترتب على ذلك الانتظار نوع من التداخل بينهم وبين السكان المحليين وصل إلى حد التزاوج فنشأ بعد ذلك جيل جديد يحمل السمات الأفريقية والعربية يتحدثون لغة سواحيلية بمفردات بانتوية وعربية في قالب قواعديّ بانتويّ .

ومن جهة أخرى فإن الأثر العربي لم يقتصر فقط على جهة الشرق بل امتد أيضا من جهة الشمال من مصر والسودان في مرحلة سابقة مع المصريين القدماء وازداد لاحقا بعد انتشار الإسلام في شمال إفريقيا وخاصة أنّ مصر كانت تُعدُّ نقطة الإرتكاز والإنطلاق نحو الغرب والجنوب . بدأ ذلك الأثر المصري قبل مجئ العرب إلى مصر من خلال الرحلات الإستكشافية التي كان يقوم بها المصريون القدماء بحثا عن منابع النيل ، ثم تطور ذلك الأثر بشكله العربي بعد انتشار الإسلام و اللغة العربية بين المصريين من خلال الرحلات التجارية والدعوية في نفس الوقت ، مما ترك أثرا عربيا باللهجة المصرية في بعض المفردات السواحيلية وإن كان أقل من الأثر العربي من الجزيرة العربية . ومن ثم لا يمكن الفصل بين مصر وإفريقيا وذلك لأن مصر جزء لا يتجزأ من القارة الإفريقية وعلى ذلك فالحديث يجب أن يكون عن التعاون الثقافي المصري الإفريقي الإفريقي .ومن هنا يجب إلقاء الضوء على مفهوم مصطلح الثقافة حتى نتمكن من الحديث عن التعاون الثقافي الإفريقي الإفريقيّ . فالثقافة هي مجموع العادات والتقاليد والأنشطة الاجتماعية التي يمارسها أيّ شعب من الشعوب ومن ثمّ فالثقافة هي بنية المجتمع الاجتماعي وأسلوب حياته وقيمه ونظامه السياسي ، أو بمعنى آخر هي كل ماأنتجه الإنسان في مجتمعه سواء أكان ذلك المجتمع حضريا أم ريفيا أم بدويا ، متقدما أم غير متقدم .

وعلى ذلك فالثقافة يمكن وصفها بأنها مجموع الخبرات والتراث الذي يشكل أي مجتمع ومن ثم فإنها تتسم بالاستمرارية والتطور من جيل إلى جيل . وعلاقات مصر الإفريقية بأخواتها من الدول الإفريقية تتسم بالتقارب فيما بينها نظرا لأن مصر إفريقية أصابها ما أصاب الدول الإفريقية الأخرى من ظلم استعماري أوروبي أدى إلى نهب الثروات الإفريقية واستعباد أهلها من أجل تشغيل مصانعهم ابان الثورة الصناعية في أوروبا فاغتنى الأوربيون على حساب الأفارقة وبسواعد وموارد إفريقية واصبح الإفريقي لا يجد قوت يومه والمرض يحاصره من كل اتجاه على الرغم من ثرواته الهائلة التي سلبها ذلك المستعمر الأوروبي الذي لم يهتم إلا بمصالحه ومصالح شعبه دون النظر إلى مصالح الشعوب الإفريقية وانسانيتهم وبالتالي فإن القواسم المشتركة بين مصر والدول الإفريقية كثيرة لوجود ارث حضاري لا يختلف عن بعضه كثيرا سواء أكان ذلك من ناحية الظلم المشترك من المستعمر أم من ناحية العادات والتقاليد أم البيئة الجغرافية المتشابهة وبالتالي فإن الاتفاق الثقافي بين الشعوب الإفريقية أقرب إلى بعضه البعض . وهنا يأتي السؤال ما هو دور مصر الثقافي مع أخواتها من الدول الإفريقية ؟ وهل لمصر دور ثقافي فاعل مع الدول الإفريقية أم لا ؟ والإجابة عن ذلك بالطبع بالإيجاب” نعم ” لمصر دور ثقافي مع الدول الإفريقية ولكن قد يكون انحسر في الآونة الأخيرة بسبب الظروف التي تمر بها مصر اقتصاديا ومن ثم يجب البحث عن هذا القصور واعادة بناء الجسور مرة ثانية لأن مصر وشعبها في قلب كل إفريقي ينتمي لهذه القارة العريقة “إفريقيا ” ويمكن عرض ذلك في نقاط رئيسية تدور معظمها حول:

1- القوى الناعمة المتمثلة في الثقافة من خلال الأزهر والكنيسة لما لهما من أهمية كبيرة في نفوس الأشقاء الأفارقة ولن يصل ذلك إلى مُبتغاه إلا بتطوير دور كل مصري يذهب إلى أي دولة إفريقية على كل المستويات وأن يدرك كل مصري أنّ لديه رسالة وليس مجرد تحسين حالة مادية ومن ثم يجب تدريب كل من يسافر إلى الدول الإفريقية وإعطائه دورة ثتقيفية عن كيفية التعامل مع الأشقاء من الدول الإفريقية سواء أكان ذلك من ناحية العادات والتقاليد أم اللغات التي يتحدثها أبناء هذه الدول .

2-توثيق العلاقات الإفريقية الإفريقية من خلال عقد مذكرات التفاهم والتبادل الثقافي والعلمي بين الجامعات المصرية ونظيرتها من الجامعات الإفريقية في شتى التخصصات العلمية والأكاديمية وخاصة تلك التخصصات التي تحتاجها الدول الإفريقية في مجال الطب والهندسة والزراعة والري ،أما من ناحية اللغة العربية فيجب على مصر الاهتمام بنشر اللغة العربية وتدعيمها في الجامعات والمراكز العلمية في الدول الإفريقية لما لذلك من أهمية في نشر الثقافة المصرية ونشرها بين الأشقاء الأفارقة سواء أكان ذلك في شرق القارة الإفريقية أم في غربها أم في جنوبها وذلك من خلال الاهتمام بالمبعوث الأزهري أم موفد الأوقاف وعدم السماح لمن لا يجيد لغات هذه الشعوب أو ثقافتها في الذهاب إلى التصدي للعمل الدعوي لأن في ذلك إساءة لمصر وللأزهر خاصة إذا ما علمنا أنه يوجد أقسام متخصصة في اللغات الإفريقية في جامعات الأزهر وعين شمس والقاهرة وعلى المختصين انتقاء الأكفأ حتى يمثل مصر في الخارج مما يعكاس الدور الإيجابي للمصري خارج بلده فيعود ذلك بالنفع على مصر وكذلك على الأشقاء الأفارقة .ومن ناحية أخرى يجب الاهتمام بالطلاب الأفارقة المقيمين في مصر سواء أكانوا المقيمين في مدينة البعوث الإسلامية أم الدارسين في الجامعات المصرية الأخرى حتى يعود إلى بلده بفكر وثقافة مصرية إيجابية ويكون بذلك مصري الهوى والثقافة ومدافعا عنها .

3-المشاركة بالخبرة المصرية في تطوير المناهج الدراسية في الدول الإفريقية .

4-الاهتمام بدور الكنيسة القبطية لما لها من دور مهم في المجتمعات الإفريقية من خلال دورها الإيجابي وانعكاس ذلك الدور الإيجابي على مصر بالنفع في شتى المجالات .

5-الاهتمام بالترجمات من وإلى اللغات الإفريقية لما لذلك من أهمية في نشر الثقافة المصرية بين الشعوب الإفريقية في شتى المجالات الثقافية والدينية والأدبية .

6-الاهتمام بالتواجد المصري في الجامعات الإفريقية في نشر اللغة العربية من خلال إعادة زيادة التواجد المصري من الخبراء في الأقسام العلمية بالجامعات الإفريقية لأن في ذلك نشر للثقافة المصرية ومن ثم انتماء إفريقي سيعود بالنفع على مصرفي شتى المجالات .

7-الإهتمام بالفنون الإفريقية لما لذلك من أهمية بالتراث الشعبي من خلال الزيارات المتبادلة مع مراكز الفنون الإفريقية والمصرية على أن يكون ذلك من خلال مذكرات تفاهم مشتركة طويلة الأمد بين مصر والدول الإفريقية .
8- الإهتمام الثقافي في المناهج المصرية لتنمية الإنتماء الإفريقي لدى المصري منذ الطفولة حتى يكون انتماؤه إفريقيا من الدرجة الأولى .

9-الاهتمام بالتراث العربي في الثقافات والآداب الإفريقية من خلال الاهتمام بمخطوطات اللغات الإفريقية المكتوبة بالحرف العربي فعلى سبيل المثال لا الحصر إن أقدم مخطوطة سواحيلية في شرق إفريقيا ترجع إلى قصيدة الهمزية التي كتبها البوصيري المصري في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم وهي عبارة عن بيت شعري عربي وبأسفله بيت شعري سواحيلي مكتوب بالحرف العربي وفي ذلك دليل على الأثر المصري الذي يمتد جذوره إلى قديم الزمان وهو ما يعكس التفاعل بين المصريين وأشقائهم الأفارقة .ولم يكن ذلك مقصور على اللغة السواحيلية بل يمتد أيضا إلى اللغات الإفريقية الرئيسية في الغرب الإفريقي كالفولانية والهوسا وذلك واضح من الأثر المصري و العربي في اقتراض هذه اللغات للعديد من المفردات العربية التي أصبحت تشكل مفردات أساسية في المعجم اللغوي لهذه اللغات الإفريقية بل يصل الأثر المصري في بعض الأحيان إلى أن بعض هذه المفردات يرجع أصله إلى اللهجة المصرية . وفي النهاية لا يسعني إلا أن أقول إن العلاقات المصرية الإفريقية تمتد جذورها إلى أعماق الأرض الإفريقية ولا تحتاج إلا لمن يرويها بالتقارب والإلتحام الثقافي فيعود لمصر دورها الريادي في إفريقيا كما كان من قبل .

أ.د/ أيمن إبراهيم الأعصر
أستاذ الأدب السواحيلي بكلية اللغات والترجمة – جامعة الأزهر

زر الذهاب إلى الأعلى