مقالات الرأى

د. فايد محمد سعيد يكتب : إحياء العقل الفقهي لمواجهة تحديات العالم المعاصر

 

الفقه الإسلامي ليس مجرد نظام روحي أو إطاري للشعائر الدينية فحسب، بل هو شريعة شاملة تتناول أدق تفاصيل الحياة اليومية. إنها تعكس عظمة الإسلام كدين عالمي أتى رحمة للعالمين، كما قال الله تعالى في كتابه العزيز: “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين” (الأنبياء: 107). ومع ذلك، تم تهميش أبواب المعاملات والتركيز بشكل مفرط على الجوانب الشعائرية مثل الصلاة والصوم والزكاة، مما أدى إلى حصر الدين في نطاق ضيق رغم شموليته.

قال تعالى: “ما فرطنا في الكتاب من شيء” (الأنعام: 38)، وهذه الآية تمثل دعوة للتفكر في شمولية الإسلام واستيعابه لكل الجوانب الحياتية. لذلك، فإن تقليص الفقه الإسلامي إلى أبواب العبادات فقط يُعد جريمة معرفية تحرم البشرية من فوائد عظيمة تتعلق بالتنظيم الاجتماعي، والاقتصادي، والقانوني.

دور الفقه الإسلامي في مواجهة تحديات العصر الحديث

في زمننا الحاضر، تبرز العديد من القضايا المستجدة التي تحتاج إلى حلول فعالة ومستدامة، بدءًا من أزمات الاقتصاد العالمي، مرورًا بقضايا البيئة، وصولًا إلى التحديات الاجتماعية والقانونية. وقد أثبت الفقه الإسلامي تاريخيًا قدرته على معالجة هذه التحديات، ولكن التركيز على إعادة تفعيله أصبح أكثر إلحاحًا في العصر الحديث.

1. الاقتصاد والتجارة: نموذج لاقتصاد عادل

النظام الرأسمالي السائد اليوم أظهر جوانب خلل واضحة، مثل الأزمات الاقتصادية المتكررة وعدم المساواة الاجتماعية. الفقه الإسلامي يقدم نموذجًا اقتصاديًا متوازنًا يمنع الربا (الفائدة) ويشجع على المبادئ القائمة على الشراكة، مثل المضاربة والمشاركة، والتي تعزز العدالة الاقتصادية وتجنب الاستغلال.

على سبيل المثال، يمكن أن تساهم البنوك الإسلامية، التي تعتمد على التمويل التشاركي، في معالجة الفجوة بين الطبقات الاجتماعية عبر تقديم حلول تمويلية مبتكرة. كما أن مبادئ الوقف الإسلامي تعزز التنمية المستدامة من خلال تخصيص موارد لدعم التعليم والصحة والمشروعات الاجتماعية.

2. حماية البيئة: استدامة وفق المبادئ الإسلامية

مع تزايد القلق العالمي بشأن تغير المناخ، تبرز الحاجة إلى قوانين بيئية أكثر فعالية. الإسلام سبق أن وضع أسسًا قوية لحماية البيئة، كما في قوله تعالى: “ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها” (الأعراف: 56).

من خلال تطبيق مفاهيم مثل “الوقف البيئي” و”الإحسان في استخدام الموارد”، يمكن للمجتمعات أن تتبنى سياسات مستدامة. مثلاً، يمكن استلهام نظام الحِمى الإسلامي (المحميات الطبيعية) لتطوير قوانين تحمي الموارد الطبيعية وتعزز التنوع البيولوجي.

3. قانون الأسرة: استقرار المجتمعات

الارتفاع في نسب الطلاق وتفكك الأسر في المجتمعات الحديثة يشكل تهديدًا خطيرًا على الاستقرار الاجتماعي. الفقه الإسلامي يعطي الأولوية لبناء أسرة متماسكة عبر تنظيم الحقوق والواجبات بين أفراد الأسرة.

على سبيل المثال، يمكن للمبادئ الإسلامية المتعلقة بالعدل في النفقة والميراث أن تقلل من النزاعات الأسرية. كما يمكن تعزيز الوساطة الشرعية لحل الخلافات الأسرية قبل اللجوء إلى الطلاق، مما يساعد على تقليل حالات التفكك.

4. القانون الجنائي: بين الردع والإصلاح

النظام الجنائي في الإسلام يهدف إلى تحقيق العدالة والردع، ولكنه لا يغفل الجانب الإصلاحي. الحدود الشرعية، مثل حد السرقة، تُطبق وفق شروط صارمة لضمان العدالة.

في الوقت نفسه، يقدم الإسلام نظامًا متكاملاً لإعادة تأهيل المجرمين، حيث يدعو إلى التوبة والتكفير عن الذنوب. هذه المبادئ يمكن أن تُلهم تطوير أنظمة جنائية حديثة تراعي الجانب الإنساني وتحقق الردع دون الإضرار بالنسيج الاجتماعي.

5. العلاقات الدولية: أسس للسلام العالمي

في ظل التوترات السياسية والحروب، يمكن للفقه الإسلامي أن يساهم في تطوير نظام عالمي قائم على العدالة. الإسلام يشجع على حل النزاعات بالحوار والصلح، كما قال تعالى: *“وإن جنحوا للسلم فاجنح لها

عظمة الفقه الإسلامي وضرورة التركيز على قضايا العصر

الإسلام دين شامل يغطي جميع جوانب الحياة، وقد أثبت الفقه الإسلامي على مر العصور مرونته في مواجهة المستجدات، وتقديم حلول لمشكلات معاصرة بفضل أدوات الاجتهاد الفقهي وأصوله الراسخة. ومع ذلك، نجد أن التركيز في العالم الإسلامي اليوم يقتصر غالبًا على أبواب الشعائر الدينية، بينما يغفل عن المجالات الأخرى التي تُظهر شمولية الإسلام كدين صالح لكل زمان ومكان.

قال الله تعالى: “ما فرطنا في الكتاب من شيء” (الأنعام: 38)، وهذا تأكيد على أن الإسلام يحتوي على الإرشادات اللازمة لتنظيم حياة الإنسان في مختلف العصور. كما قال تعالى: “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين” (الأنبياء: 107)، مما يشير إلى عالمية رسالة الإسلام التي تتجاوز حدود الشعائر لتشمل كافة مجالات الحياة.

معالجة المستجدات في وسائل التواصل الاجتماعي

مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، ظهرت العديد من القضايا الأخلاقية والفقهية التي تحتاج إلى معالجة، مثل نشر الشائعات، وانتهاك الخصوصية، والتحريض على الكراهية. الفقه الإسلامي وضع أُسسًا لضبط السلوك الإنساني، منها قوله تعالى: “يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قومًا بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين” (الحجرات: 6).

من المبادئ المستنبطة:
• حفظ الكرامة والخصوصية: لا يجوز التجسس أو نشر صور وأخبار الآخرين دون إذن، استنادًا إلى قوله تعالى: “ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضًا” (الحجرات: 12).
• ضوابط الخطاب العام: يجب أن يكون النشر في وسائل التواصل مبنيًا على الصدق والعدل، تطبيقًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت” (رواه البخاري).

قضايا المعاملات المالية المستجدة

شهدت العقود الأخيرة تطورات هائلة في المعاملات المالية، مثل العملات الرقمية (البيتكوين)، والتجارة الإلكترونية، والبنوك الرقمية. الفقه الإسلامي لديه القدرة على مواكبة هذه التطورات من خلال القواعد الشرعية التي تضمن العدالة والشفافية:
• العملات الرقمية: تحتاج إلى دراسة فقهية شاملة لتحديد مشروعيتها وفقًا لمعايير مثل ضمان عدم الغرر والاحتيال، وقاعدة “كل قرض جر نفعًا فهو ربا”.
• التجارة الإلكترونية: يتم ضبطها بمبادئ الصدق والوفاء بالعقود، كما في قوله تعالى: “وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولًا” (الإسراء: 34).
• التمويل بالذكاء الاصطناعي: يمكن الاستفادة من التقنيات الحديثة في التحليل المالي، شريطة مراعاة الضوابط الشرعية في الاستثمار وتجنب الربا.

صناعة الفتوى في الإسلام ودور الخبرة التخصصية

الفتوى في الإسلام ليست مجرد رأي فردي أو حكم ديني مُطلق، بل هي عملية معقدة تتطلب معرفة شرعية دقيقة وإلمامًا بواقع الحياة ومقتضيات العصر. المفتي، في سعيه لإصدار فتوى تعالج قضايا جديدة، يعتمد على الاجتهاد المبني على النصوص الشرعية، مع ضرورة الاستعانة بأهل التخصص والخبرة في المجالات المختلفة.

يقول الله تعالى: “فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون” (النحل: 43). هذه الآية الكريمة تؤكد أهمية الرجوع إلى المختصين عند مواجهة قضايا تتطلب فهمًا عميقًا في مجالات معينة، سواء كانت طبية، هندسية، قانونية، أو غيرها.

أمثلة على الاستشارة التخصصية في الفتوى:
1. الفتاوى الطبية:
• عند إصدار فتوى بشأن التلقيح الصناعي، الاستنساخ، أو زراعة الأعضاء، يحتاج المفتي إلى فهم دقيق للتقنيات الطبية وآثارها، عبر استشارة الأطباء المتخصصين.
2. الفتاوى البيئية:
• قضايا مثل تقنين استخدام الموارد الطبيعية أو التعامل مع الكوارث البيئية تحتاج إلى رأي خبراء في علم البيئة والهندسة، لضمان مراعاة الجوانب الشرعية والعلمية.
3. الفتاوى الاقتصادية:
• في مسائل البنوك الإسلامية أو العملات الرقمية، لا بد من الاستعانة بخبراء اقتصاديين لفهم طبيعة المعاملات ومدى توافقها مع الشريعة.

ضبط الفتوى بآليات الاجتهاد:

تجنبًا للتسرع في إصدار الفتاوى، وضع العلماء قواعد لضبط الفتوى، منها:
• الاعتماد على الأدلة الشرعية من القرآن والسنة.
• مراعاة مقاصد الشريعة، مثل حفظ النفس، المال، العقل، العرض، والدين.
• فهم الواقع واستشارة أهل الاختصاص لضمان إصدار فتوى تراعي الجوانب الشرعية والواقعية.

الإمام الشاطبي، في كتابه الموافقات، أشار إلى أن “المجتهد لا يستطيع إصدار فتوى صحيحة إلا إذا فهم واقع المسألة التي يبحثها”، مما يعزز أهمية استشارة أهل الخبرة لضمان دقة الفتوى وشموليتها.

قضايا الذكاء الاصطناعي ومستجداته

الذكاء الاصطناعي (AI) أصبح جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية، مما أثار أسئلة أخلاقية وفقهية مثل حقوق الملكية الفكرية، والخصوصية، واستخدامه في المجالات الحربية.
• العدالة والإنصاف: يشترط الإسلام العدل في التعامل مع التقنيات الجديدة، كما قال تعالى: “ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى” (المائدة: 8).
• حقوق الإنسان: يُمنع استخدام الذكاء الاصطناعي في استغلال العمالة أو انتهاك الخصوصية، انطلاقًا من مبدأ الكرامة الإنسانية الذي كفله الإسلام في قوله تعالى: “ولقد كرمنا بني آدم” (الإسراء: 70).

أحكام الأسرة المستجدة

التحديات الأسرية المعاصرة، مثل ارتفاع معدلات الطلاق، وقضايا الحضانة المشتركة، والأطفال الناتجين عن تقنيات الإنجاب الحديثة (كالتلقيح الصناعي)، تحتاج إلى اجتهادات فقهية جديدة تراعي ظروف العصر.
• تقنيات الإنجاب الحديثة: يجب أن تُضبط بأحكام الشرع التي تحفظ النسب وتمنع الخلط.
• الوساطة الأسرية: الإسلام يحث على المصالحة، كما في قوله تعالى: “وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها إن يريدا إصلاحًا يوفق الله بينهما” (النساء: 35).

تفعيل الفقه لمواكبة العصر

أثبت الفقه الإسلامي قدرته على التعامل مع المستجدات من خلال الاجتهاد المبني على قواعد أصولية، مثل قاعدة “الأصل في الأشياء الإباحة” وقاعدة “المصلحة المرسلة”. علماء المسلمين، مثل الشافعي وابن القيم، أكدوا على ضرورة مراعاة الزمان والمكان في الاجتهاد.

على سبيل المثال، غوستاف لوبون في كتابه “حضارة العرب” أكد أن النظام القانوني الغربي استفاد كثيرًا من الفقه الإسلامي، خاصة في باب المعاملات. ومن هنا، نرى أن الفقهاء المسلمين كانوا روادًا في تقديم حلول للمستجدات، مما يؤكد على أهمية استنهاض العقل الفقهي لمواجهة تحديات العصر.

الخاتمة

إن عظمة الفقه الإسلامي تكمن في شموليته ومرونته، وقدرته على تقديم حلول لكل التحديات التي تواجه الإنسانية. من وسائل التواصل الاجتماعي، إلى الذكاء الاصطناعي، والمعاملات المالية، والبيئة، والأسرة، يمكن للفقه أن يقدم رؤى مستنيرة تلهم العالم وتحقق العدالة والتنمية. إن تفعيل الفقه الإسلامي بشكل سليم ليس رفاهية، بل ضرورة حضارية لتحقيق الرحمة التي جاء بها الإسلام للعالمين.

زر الذهاب إلى الأعلى