مقالات الرأى

د. فايد محمد سعيد يكتب: الفتوى فقه متحرك ومسؤولية عظيمة

مقالات للرأي

 

 

مقام الفتوى،مقام جليل يظهر في هذه الآية الكريمة ، قال الله تعالى: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ﴾ [النساء: 176]؛؟حيث عِظَم مقام الفتوى، إذ نسبها الله سبحانه وتعالى إلى ذاته العليّة بقوله: ﴿اللَّهُ يُفْتِيكُمْ﴾. وهذا يبين أن الفتوى ليست كلامًا عابرًا، ولا رأيًا شخصيًا مجرّدًا، وإنما هي بيان لحكم الله تعالى، وأمانة كبرى تتعلق بدين الناس ودنياهم.

فالفتوى تكليف إلهي ومسؤولية شرعية، لا تقتصر على نقل النصوص أو سرد آراء الفقهاء، بل تتطلب سعة اطّلاع بالعلوم الشرعية، ومعرفة دقيقة بخلافات الفقهاء ومقاصد الشريعة، مع إدراك واعٍ لأعراف الناس وأحوالهم، وما يصلح لهم وما لا يصلح.

وقد أطلق العلّامة الدكتور محمد كمال الدين إمام رحمه الله على الفتوى وصف: “الفقه المتحرك”، فهي ليست ساكنة جامدة، وإنما تتحرك مع حركة الحياة. فالسؤال الذي يُعرض على الفقيه ليس نظريًا مجردًا، بل هو نابع من واقعة محددة وحالة خاصة، يفتّش الفقيه لها عن جواب يراعي النصوص الشرعية ويحقق مقاصد الشريعة.¹

أولًا: تغيّر الفتوى بتغيّر الظروف

قرر الإمام ابن القيم رحمه الله أن الفتوى قد تتغير باختلاف ستة أمور، فقال:

“تغيّر الفتوى واختلافها بحسب تغيّر الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد، أمرٌ لا يُنكِره فقيهٌ ولا من له أدنى نصيب من العلم.”²

فالفتوى تتغير لأن الشريعة لم تُبنَ على الجمود، وإنما على مقاصد رحبة تراعي أحوال الناس. وهذه العوامل الستة هي:
1. الزمان: فما يكون مناسبًا في عصرٍ قد لا يكون كذلك في عصر آخر، نظرًا لاختلاف الوقائع وتجدد النوازل.
2. المكان: إذ تختلف الأعراف والبيئات، وما يصلح في بلدٍ قد لا يصلح في بلدٍ آخر.
3. الأحوال: كالفرق بين حال الغنى والفقر، أو الصحة والمرض، أو الأمن والخوف.
4. النيات: فالمقاصد الداخلية تؤثر في الحكم، إذ يختلف الحكم بين من يقصد الحق ومن يريد التحايل.
5. الأشخاص: فاعتبار حال المستفتي ضروري، فالناس ليسوا سواءً في مداركهم وأهليتهم وقدرتهم على التحمّل.
6. العوائد: فالعرف أصل معتبر في الفقه، وتبدّل العادات يؤثر في تنزيل الأحكام.

ثانيًا: الإمام الشافعي نموذجًا

الإمام الشافعي (ت. 204هـ) من أبرز الأمثلة على تغيّر الفتوى باختلاف المكان والزمان. فقد كان له مذهبان: القديم في العراق، والجديد في مصر.

أسباب تغيّره:
1. اختلاف البيئة الاجتماعية والعرفية بين العراق ومصر.
2. اطّلاعه في مصر على أحاديث وآثار لم تصله من قبل.
3. وجود مدارس علمية جديدة أثرت في اجتهاده، خاصة مدرسة الإمام الليث بن سعد.

نماذج من فتاواه المتغيرة:
• مسألة الأذان في السفر: كان يرى في مذهبه القديم أن الأذان لا يُستحب إلا في الحضر، ثم غيّر رأيه في مصر وقال باستحباب الأذان للمسافرين أيضًا، لثبوت الأحاديث في ذلك.
• مسألة زكاة الفطر: كان يقول في القديم بجواز إخراجها من أي طعام، ثم غيّر رأيه في الجديد فأوجب أن تكون من القوت الغالب للبلد، مراعاة لعرف مصر الذي كان قائمًا على القمح.
• مسألة الحيض: في مذهبه القديم قدّر أقصى الحيض بعشرة أيام، ثم غيّره في الجديد إلى خمسة عشر يومًا، بعد أن بلغه أثر عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.

هذه النماذج تُظهر كيف أن تغير الفتوى عند الشافعي لم يكن تذبذبًا في الرأي، بل انتقالًا مدروسًا قائمًا على النصوص والمعرفة بالواقع.

 

ثالثًا: نص الإمام القرافي في تغيّر الفتوى

الإمام القرافي (ت. 684هـ) من أبرز من أصلوا لفقه تغيّر الفتوى. قال في كتابه الفروق:

“إنَّ إِيقاع الفتوى على وفق المنقولات والأقوال المأثورة من غير نظرٍ في عوائد الزمان وأحوال أهله، ضلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين، بل هو خلاف الإجماع؛ فإنهم أجمعوا على أن الأحكام تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال والعوائد والنيات.”³

وهذا النص يقرر بوضوح أن الجمود على ظاهر الأقوال القديمة دون مراعاة تغيّر الزمان والمكان جهلٌ وخروج عن مقاصد الشريعة.

 

رابعًا: أمثلة إضافية من السلف
• عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أوقف سهم المؤلفة قلوبهم في الزكاة بعد أن صار الإسلام عزيزًا، مع أن النص القرآني باقٍ، مراعيًا تغيّر الحاجة.
• ابن مسعود رضي الله عنه: غيّر فتواه في قسمة الميراث بين أهل الردة بحسب الظروف التي طرأت زمن الفتن.
• العز بن عبد السلام (ت. 660هـ): أجاز بيع السلاح في زمن السلم، وحرّمه زمن الفتنة إذا كان يؤدي إلى قتل المسلمين.

 

خامسًا: أمثلة من فقه مصر ودار الإفتاء

اشتهرت مصر بأنها مركز متجدد للفتوى، ومن أمثلة ذلك:
• في أوائل القرن العشرين أفتى الشيخ محمد بخيت المطيعي (مفتي الديار المصرية) بجواز التأمين التجاري عند الحاجة، نظرًا لتغيّر المعاملات الاقتصادية.
• وأفتى الشيخ عبد المجيد سليم بجواز استخدام مكبرات الصوت في الأذان، مع أن هذه الوسيلة لم تكن موجودة في عصور سابقة.

هذه الأمثلة كلها تبرز أن الفتوى لا يمكن أن تبقى جامدة، بل تتفاعل مع واقع الناس، وتخدم مقاصد الشريعة في التيسير ورفع الحرج.

 

سادسًا: رحمة الشريعة واتساعها

إن استحضار هذه المتغيرات يجعل الفتوى فقهًا حيًا متجددًا، يوازن بين ثبات النصوص وحركة الواقع. ولو كانت الفتوى جامدة لا تراعي هذه الفروق، لضاق الناس بها، ولخالف ذلك مقصد الشريعة في التيسير ورفع الحرج، كما قال تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185].

وهكذا، تبقى الفتوى فقهًا متحركًا، يتفاعل مع حياة الناس، ويعكس رحمة الإسلام وشموله، ويحقق مقاصده العليا في إقامة العدل، ونشر الرحمة، ورفع الحرج عن الخلق.

المراجع
1. محمد كمال الدين إمام، الاجتهاد والتجديد في الفقه الإسلامي، القاهرة: دار الشروق، 2010.
2. ابن القيم، إعلام الموقعين عن رب العالمين، تحقيق طه عبد الرؤوف سعد، القاهرة: مكتبة الكليات الأزهرية، ج3، ص11.
3. القرافي، الفروق، بيروت: دار المعرفة، ج1، ص177.
4. انظر: الشافعي، الأم، القاهرة: دار المعرفة.
5. انظر: ابن عبد السلام، قواعد الأحكام في مصالح الأنام، بيروت: دار الكتب العلمية.
6. دار الإفتاء المصرية، فتاوى معاصرة، القاهرة، 2000.

زر الذهاب إلى الأعلى