د. عبد الراضي رضوان يكتب: جدلية الحداثة

رغم أن الحداثة تشكِّل جدلية معرفية مُوهمة في الإيغال بدءاً من التباين الواسع مترامي الأطراف حول تعيين ظرف نشأتها ، أو تاريخانيته ، أو هويته التصنيفية .
إذ تتمدد مقولات محاولة التعيين والتحديد فيما بين عقود متباعدة على ما يقارب صفحة قرنين من الزمان الوجودي حسب المقترحات التالية :
1 – عام 1436 م مع اختراع يوهان جوتنبرج المطبعة
2 – عام 1520 م حيث ثورة مارتن لوثر ضد البابا والكنيسة الكاثوليكية
3 – عام 1539 م ثورة كوبرنيكس مؤسس علم الفلك الحديث بنظريته حول مركزية الشمس ودوران الأرض حولها ودوران القمر حول الأرض
4 – 1637 م كوجيتو ديكارت أبو الفلسف الحديثة المتضمن منهجية الفكر الحديث و مبادئ الرياضيات.
5 – عام 1687 م قوانين الحركة لنيوتن.
6 – كانط صاحب الثورة النقدية في الفلسفة
7 – 1789 م الثورة الفرنسية
8 – 1895 م سيجموند فرويد مع كتاب (تفسير الأحلام) .
وتستمر جدلية الحداثة كذلك مروراً بتقلبات المفهوم الذي يختلف عن المفهوم الكانطي المصاحب للتنوير بخروج الإنسان من حالة الوصاية المتمثلة في استخدام عقله دون توجيه من غيره، ذلك التوظيف الذي يشترط فيه الفيلسوف إيمانويل كانط وجود الحرية لأجل تحقيق التنوير والحداثة، بمعنى التحرر الفعلي من سلطة المقدس ورجال الكهنوت وأصنام العقل.
إلى أن نصل إلى مفهوم للحداثة استخلصه الفرنسي آلان تورين بأنها نزعة لاستبدال فكرة الله بفكرة العلم.
وربما يكون ذلك ما تنبأ به برتراند رسل من أن الحداثة ستقود الإنسان إلى التحرر من سلطة الكنيسة إلى الفوضوية المتمثلة في النزعة الفردية، لأن الانضباط العقلي والسياسي والأخلاقي كان رهيناً بالفلسفة المدرسية والسلطة الكنسية.
ولا تكاد جدلية الحداثة تقف عند حدود تباين تاريخانية النشأة واختلاف المفهوم، بل تتعداهما إلى جدلية إمكان التعريف الاصطلاحي.
إذ يبرز رأي بعدم قابليتها للتعريف لأنها نزعة قائمة على أساس التحوّل والتغيّر وعدم الثبات.
وبالتالي فهي كما يرى فيلسوف الحداثة المعاصر هابرماس مشروع لم يكتمل، فكيف يمكن تعريف غير المكتمل ؟
فغاية الممكن أن نَصِفها بأنها نمط حضاري يناقض النمط القديم اجتماعياً، وسياسياً، وأدبياً، وعلمياً، وفكرياً، وفنياً، وسلوكياً.
وقد ارتبط بجدلية التعريف جدلية الاصطلاح ، فيتم التعبير عن الحداثة بلفظين وليس بلفظ واحد :
1. Modernity
بمعنى المعاصرة والعصرية من خلال إحداث تغيير وتجديد في المفاهيم السائدة والمتراكمة
عبر الأجيال نتيجة اختلاف الزمن والثقافة والفكر.
2. Modernism
بمعنى المذهب الأدبي أو الفكري الداعي إلى التمرد على الواقع والانقلاب على القديم الموروث بكل جوانبه ومجالاته.
لكن الجدلية الكبرى التي لم تكن في الحسبان أن تتم مقاربة الحداثة بالدين.
فهل هذه المقاربة بين الحداثة والطوطمية مثلاً تنطوي على شيء من الافتئات أو الافتعال أم أنها تعكس طبائع مقالات الحداثة الآنية بقِيَمها وسلوكها وفعالياتها؟
إن كان اعتبار الطوطم (الرمز الطبيعي) مقدساً يرجع بالأساس إلى أنه يجسد القيم المحورية في حياة المجتمع والجماعة الإنسانية، وإن كان تحوله إلى ديانة جاء من اجتماع المعتقدات فيه، وكذلك دوران الأنشطة الطقوسية والاحتفالية حوله، وأنه محور الانفعال الجَمْعي المؤدي إلى التحولات الاجتماعية الكبرى.
فإن الحداثة لا تكاد تبعد عن ذلك كثيراً ، فهي علاقة بين جماعة إنسانية وموضوع طبيعي (العلم، المادة، التكنولوجيا) ويجسد ذلك الموضوع قِيَمها وأفكارها وأخلاقها، وبالتالي أصبحت أنشطتها انعكاساً لتلك القيم.
وذلك ما قرَّره الفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي مبيِّناً أنه قد وُلدت تحت اسم الحداثة ديانة حقيقية تحددت في ثلاث من المسلّمات:
1 – مسلَّمة ديكارت أن نصبح سادة مسيطرين على الطبيعة بالعلوم والتكنولوجيا.
2 – مسلَّمة توماس هوبز بسيطرة المذهب الفردي على السوق (الإنسان ذئب لأخيه الإنسان)
3 – مسلَّمة كريستوفر مارولو ( أول مؤلف لحكاية فاوست الشهيرة ) أن الإنسان يمكن أن يَحُلّ محل الله في حكم العالم
تلك المسلّمات التي تولّدت معها أيديولوجية مركزية الغرب الكونية وهيمنته العالمية والتي تجسدت في الامبريالية والكولونيالية هدفاً استراتيجياً دائماً للحضارة الغربية ونموذجا يجب فرضه بكل السبل الأليفة والمتوحشة مهما بَدَتْ غير إنسانية أو وحشية.
وعندما أصدر نوربرت وينر مؤسس السيبرانية كتابه عن علم التحكم في الأحياء والأموات،
توطدت فكرة أن المجتمعات الحديثة أكثر تعقيداً من أن يقودها الإنسان وأن العقل الصناعي ينبغي أن يحل محل عقل الإنسان ، تلك الفكرة التي بدأت تنحو منحى عملياً باختراع الكمبيوتر عام 1945 م.
وهكذا تكاملت وسائل تحقيق أيديولوجيا الحداثة وأهداف أتباعها: إرادة القوة، إرادة المتعة، إرادة التكاثر (الإنتاج والاستهلاك أكثر فأكثر وسرعة أكثر لأي شيء سواء أكان نافعاً أم ضاراً ومدمراً كالمخدرات و الأسلحة الفتاكة).
وهو الأمر الذي تخوَّف منه الألماني أتوفرانك في ثنايا خطابه إلى المستشرق الألماني كارل هينرش بيكر في 26 مايو 1915م عندما تساءل:
ماذا ستكون أوروبا بالنسبة للشرق في المستقبل ؟ عصابة من المخادعين والقامعين لا شرف لهم و لا حياء؟