أخبار ومتابعات

ومضات على الطريق للدكتور عزيز أبو الليل … الومضةُ الثانية (خلق سيدنا آدم عليه السلام وبداية البشرية)

الومضةُ الثانية (خلق سيدنا آدم عليه السلام وبداية البشرية)

ذكرنا في الومضة السابقة كيف بدأ الله الخلق؟ وكيف كانت الأرضُصالحةً لا فساد فيها؟ حتى فسد فيها خلقٌ من خلق الله، وأنزل اللهُلهم إبليس ليُطهرَ الأرضَ منهم، وكأن اللهَ يُحضّرُ الأرضَ لحدثٍعظيمٍ وخطبٍ جللٍ.

وهنا تظهر في الأفق عدة مشاهد متلاحقة، يمكن ايجازها وأخذ العبر منها، وهي كالتالي:

المشهد الأول:

بدأت المفاجئة عندما قبض اللهُ قبضة من جميع الأرض بألوانها المختلفة (الأبيض والأحمر والأسود…الخبيث والطيب والسهل والحزن وبين ذلك)، ثم خلق مخلوق جديد ليس كباقي المخلوقات الموجودة في الكون آنذاك…مخلوق عجيب التكوين، جميل الصورة والهيئة مقارنة بهم، بلغ طوله ستونَ ذراعًا، يقف ثابتًا                  شامخ الهامة.

وهنا ومضة مضيئة؛ أن هذا المخلوق له هالة عظيمة بين المخلوقات الأخرى علمًا بأنه خُلِق من طين الأرض وهم خُلقوا من النور والنار،كما أنه سوف يخرج من نسله كل الألوان التي تشابه ألوان تلك القبضة، فالكل مخلوق من نفس واحدة، فليس لأبيض على أسود من فضل أومنزلة إلا بالتقوى والعمل الصالح.

المشهد الثاني:

أخذ يطوفُ حوله وينظرُ إليه ويتفحصه ويفكرُفيه بشغف؛ من هذا المخلوق العجيب؟! لماذا خلقه الله؟! بالطبع كان هذا هو صوتُ إبليسُمع نفسه يهتف بها على خوفٍ من أمر هذا المخلوق الجديد، فلما رأهُأجوفًا عَرِف أنه خُلِقَ خَلقًا لايتمالك (أي أنه صاحب بطن فارغ من الداخل، لا يتماسك؛ متغير لا ثبات له، قليل الصبر، يَسهل إثارة غرائزه وانفعالاته، ومن ثم يمكن غوايته).

وهنا ومضة أخرى مضيئة؛ أن إبليسَ من الوهلةِ الأولى وهو متوجس خيفة من المستقبل، حيث بدأ التربص من هذا المخلوق من أول ما خُلِقَ، فأخذ يدرس مداخله وثغراته تمهيدًا لمعاداته.

المشهد الثالث:

ونعود لهذا المخلوق الذي لازال متجمدًا لايتحرك، حتى نفخَ اللهُ فيه من روحه، وهو على عجلة من أمره يريد أن يتحرك قبل أن تصل الروح إلى قدماه…فكان آدم أبَ البشر(وخُلِق الإنسانُ من عجل)، وخَلقَ اللهُ حواءَ                من ضلع آدم ؛ وقيل من الضلع الأيسر له.

وهنا ومضة جميلة؛ حيث يتضح السبب في أن الرجل والمرأة شيءٌواحدٌ؛ خُلِقا معًا من نفس واحدة، يأنسُ كل منهما بالأخر، لا تعارض بينهما، بحيث تكون المساواة بينهما بأن يكمل كلُ منهما ما ينقص الأخر.

المشهد الرابع:

أخبرَ اللهُ الملائكة أنه قد اتخذ في الأرض خليفة له (خليفة للجن الذين أفسدوا في الأرض من قبل/ خليفة             عن الملائكة/ يخلف بعضهم بعضًا)، فكان قصر نظرالملائكة أنهم يخشون أن يفسد هذا المخلوق في الأرض كما فسد الجن الأوائل، فكان الردُالنظري لهم أنه يعلم ما لايعملون، والردُ العملي عندما عَلّمَ آدمَأسماءَ الأشياء من بحرٍ وشجرٍ وجبلٍ وطائرٍ…. وأثبت لهم قِصرَعلمهم عن تلك الأشياء، وكيف فضّلَ آدم َعليهم في العلم، وأن اللهَ هو العليم الحكيم وحده لاشريك له.

وهنا ومضة أخرى؛ أن فوقَ كلِ ذي علمٍ عليم، وأن اللهَ يَهبُ علمَه من يَشاء، كيفما يشاء، وقتما يشاء، ومهما بَلغَ علمك فاللهُ أعلم بحكمته وطلاقة قدرته.

المشهد الخامس:

وجاءت اللحظةُ الحاسمة؛ عندما أمر اللهُ الملائكة أن يسجدوا لآدم،فسجد الملائكة كلهم أجمعين، وهنا امتنع إبليس عن السجود كونه لازال طاووس الملائكة، وقد شمله الأمر الموجه لهم، وهنا تصوران؛أولهما أنه تَكبرَ ابتداءً عن السجود لآدم مقارنًا نفسه كمخلوق من نار بآدمَ المخلوق من طين؛ ظنًا منه أن النار أفضل                        من الطين، وهو فكر قاصر؛ لأن العبرة بالنفع والتي هي من خصاص الطين أكثر من النار، والأهم من ذلك كله هو اتباع أمراللهونهيه، وثانيهما كما قيل أن اللهَ قد أعلمه أن هناك من سيعصي أمر الله فوقف ينظر                  من هو هذا المخلوق العاصي لله، فكان هو؛ فتكبر أن يعود، ثم تحجج بأفضليته الظاهرية على آدم، والرأي الأول هو الأقرب للصواب، ومن تلك اللحظة بدأت العداوة من إبليس ل آدم وذريته، فلُعن إبليس وطُرِد               من رحمة الله، وتركمنزلته العالية بين الملائكة، واُدخِل آدم وحواء الجنة.

وهنا ومضة أخرى، وهي أن الجميع تحت رحمة الله، وأنه مهما بلغت منزلتك فأنت عبد لله عليك طاعة أمره وإياك ثم إياك أن تتكبرَ على أى أمر من أوامره ظنًا منك أنه أمر بسيط فتزل وتخزى.

المشهد السادس:

أباح الله لآدم وحواء كلَ شيءٍ في الجنة، إلا الأكل من شجرة معينة-أمرٌهينٌ بسيطٌ- فوسوسَ لهما إبليس فأكلا منها، فبدت لهما سوءتهما، وغَطيا عَورتَهما بورقِ الجنة، فأخرجهما إبليس مما كانا فيه، هنا دعا آدم ُربَه بدعاء مخصوص؛ طالبًا عفوه ومغفرته؛ فتاب الله عليهما، وأنزلهما إلى الأرض.

وهنا ومضة مهمة؛ أن الإنسانَ مجبولًا على الرغبة فيما يمنع منه، فمن حفظ نفسه نجا، ومن أطاعها هلك، لاسيما أن المعصية سببٌفي رفع الغطاء والسترعن العبد، والطاعة تحصنه بستر ربه عليه، كما أن الحياء من طبيعة الإنسان السوي؛ حيث لم يرتضي آدم وحواء ظهور سوءتهما، كما أن الدعاء طريق النجاة، وأن الإنسان مهما عصى ربه فباب التوبة مفتوح منذ خلق الله آدم إلى أن تشرق الشمس من مغربها، كل ذلك على خلاف إبليس الذى عصى ربه ولم يلجأ إليه بالدعاء لطلب المغفرة فتكبر على الله فلعنه لأن الكبرياء رداء الله والعظمة إزاره فمن نازع الله فيهما قصمه ولا يبالي.

المشهد السابع:

كان التحدي من إبليس لآدم وحواء وذريتهما بأنه سيقعد لهم على كل صراطٍ مستقيم، فما من طريق خير                  إلا وكان إبليس متربص فيه لبني آدم يضلهم ويمنيهم، فيستثني الله من ذلك عباده المخلصين من هذا الإضلال، لكنه يترك إبليس إلى يوم القيامة اختبارًا لبني آدم حتى يميز الخبيث من الطيب.

وهنا ومضة هامة؛ أن عداوة إبليس لآدم وحواء وذريتهما دائمة ببقاء الخلق، وأنه يترصد لهم كل طريق قويم ليُضلهم عنه، فيكونون سواء.

المشهد الثامن والأخير:

نزل آدم وحواء إلى الأرض قبل غروب شمس يوم الجمعة، وهو نفس اليوم الذي خُلِق فيه، وقيل أن آدم نزل بالهند وحواء نزلت بجدة، وقيل ألتقيا معا بعد أربعين سنة -وهما يبحثان عن بعضهما-على جبل عرفة بمكة المكرمة وهنا بدأت الحضارة الإنسانية على الأرض.

وهنا ومضة أخيرة؛ أن رضاء الإنسان بما يقضي به الله حتى ولو كان إخراجه من الجنة ونزوله إلى تلك الأرض يرفع من منزلته؛ لأن الصبر على الابتلاء سبب في رفع الدرجات، وهو أمر معلوم عند الله في علمه الأزلي؛ أنه عندما يُختَبرآدم يعصي بكامل إراته، ثم يتوب من المعصية فيتوب الله عليه، لكن لابد من عقاب، فكان النزول إلى الأرض لإعمارها، وعندما يُختَبر إبليس يعصي ولا يتوب، فيَسخط الله عليه ويلعنه، وينزله أيضًا إلى الأرض عاصيًا، كلٌ بكامل إرادته واختياره.

أخيرًا فإن تلك المشاهد تصور لنا كيف كان خلق آدم، وكيف كانت عداوة إبليس له حتى أغواه، وكان سببًا في خروجه من الجنة ونزوله إلى الأرض؛ لتبدأ الحضارة الإنسانية على الأرض.

لكن من هو هذا الإنسان؟ وماذا سيفعل في تلك الأرض؟ هل سيصبح خليفة لله فيها أم سيضل ويغوى؟                           وما هو مكنون تلك الطبيعة البشرية التي تسيطر عليه؟ وكيف يفكر؟ وما هو الفرق بين القلب والعقل؟                                           وهو ما سوف نتحدث عنه في الحلقات القادمة إن شاء الله.

زر الذهاب إلى الأعلى