
في أرض الكنانة ، حيث يلتقي النيل بالخلود ، وتغفو الأهرامات على أسرار الزمان ، ولد الطب قبل أن تُعرف المدارس وتُفتح الجامعات ، ولم يكن المصري القديم يعالج الجسد فحسب ، بل كان يرى في الشفاء رسالة مقدسة ، تجمع بين العلم والروح ، وبين العقل والإيمان ، وبين الحياة والخلود ، ومنذ آلاف السنين في معابد إمحوتب أول الأطباء ومهندس الشفاء وُضعت اللبنات الأولى لفلسفة الطب المصري التي جمعت بين الملاحظة الدقيقة والتجريب العملي ، وبين النظافة والوقاية ، وبين احترام الجسد وتقديس الحياة ، ومن بردية إدوين سميث إلى بردية إيبرس ، انفتحت صفحات العلم الأول ، تحمل وصفات للأمراض ، وجراحات للرأس والعين والعظام والأسنان ، وتشريحات دقيقة لأعضاء الجسد ، تُدهش علماء العصر الحديث بما فيها من دقة علمية ومنهج تجريبي سبق العصور ، وفي عصور المصريين القدماء ، كان الطبيب في مصر رمزاً للعلم والسمو ، لا يداوي المرض فحسب ، بل يرمم التوازن بين الإنسان والكون ، وكان الطب فنا مقدسا تمارسه الأرواح قبل الأيدي ، ويستدعى فيه النور كما تستدعى المعرفة ، لأن الشفاء كان عندهم علماً يُضيء وعملاً يُنقذ ورسالة تُقدّس ، وحين بزغ فجر الإسكندرية ، بزغ معه نجم الطب الأكاديمي ، إذ غدت مكتبتها منارةً للمعرفة والعقل والبحث ، تلتقي فيها علوم الإغريق والرومان بالحكمة المصرية المتوارثة عبر القرون ، ومنها انطلقت شرارة الطب إلى أرجاء الدنيا ، فتعلم الإغريق من المصريين ، ونقلت عنهم روما أسرار التشريح والجراحة ، وورث المسلمون علومهم وأضافوا إليها روح التأمل والتجريب والإنسانية ، وفي ظل الحضارة الإسلامية ، عرفت مصر عصر البيمارستانات ، فأنشأ الفاطميون البيمارستان العتيق في القرن الرابع الهجري ، فكان من أوائل المستشفيات الكبرى في العالم الإسلامي ، يجمع بين العلاج والتعليم والبحث ، وتُقدم فيه الرعاية للفقير والغني مجانا في كنف الرحمة والاحترام ، ثم ازدهرت القاهرة في عهد السلطان المنصور قلاوون ببيمارستانه الشهير البيمارستان المنصوري (683هـ/1284م) ، الذي وصف بأنه أعجوبة زمانه في التنظيم والنظافة والتخصصات ، وكان صرحا إنسانيا فريدا يضم أقساما للأمراض الباطنية والجراحة والعيون والنفسية ، ويُدرّس فيه الطب وتُصرف الأدوية مجانا ، ومن بعده ، أنشأ السلطان المؤيد شيخ البيمارستان المؤيدي عند باب زويلة ، ليكمل مسيرة العطاء العلمي والطبي ، ويغدو شاهدا على أن مصر جعلت من الطب صدقة جارية للإنسانية ، وفي عهد الظاهر بيبرس ، قام البيمارستان الظاهري الذي أولى اهتماما خاصا بعلاج الجرحى والعيون والجنود ، وتلاه البيمارستان القلاووني بالإسكندرية لخدمة المسافرين والتجار والمرضى القادمين من البحر ، وكانت هذه البيمارستانات مدارس للرحمة قبل أن تكون دورا للطب ، تعالج فيها الأجساد وتداوى فيها النفوس ، وتدرس فيها الأخلاق كما تدرس العلوم ، ومع بزوغ العصر الحديث ، واصلت مصر رسالتها الطبية العظيمة ، فأنشأت المدارس الطبية والمستشفيات الجامعية ، وخرجت أجيالاً من الأطباء والعلماء الذين حملوا لواء البحث والاكتشاف ، وساهموا في تطوير الجراحة ، وعلاج الأمراض المعدية ، وزراعة الأعضاء ، ومكافحة الأوبئة ، وامتدت الأيادي المصرية البيضاء إلى كل بقاع الأرض ، تطبب الجراح ، وتزرع الأمل، وترسخ صورة الطبيب المصري كرسول علم وإنسانيةٍ وعطاء ، ولقد كان الطب في مصر منذ فجر التاريخ رسالة حياةٍ لا مهنة ، وإيمانا لا تجارة ، وفلسفة للوجود قبل أن يكون حرفة للعلاج ، فالمصري الذي شاد الأهرامات وخط أول الحروف ، هو ذاته الذي آمن بأن الشفاء نورٌ من العلم والإيمان والعمل ، واليوم وهي تعيش أياما حضارية خالدة ، تستحضر مصر مجدها الطبي والعلمي لتبني به مستقبلاً صحيا متكاملاً يرتكز على البحث والابتكار ، والتعليم الطبي المتقدم ، والعدالة الصحية ، والرعاية الشاملة للإنسان ، إنها تمضي بخطى واثقة نحو غد يليق بتاريخها ، لتظل كما كانت دائمًا منارة للعلم وطب الحياة ، وملهمة للعالم بروحها الخالدة التي لا تعرف الفناء .
د.علي المبروك أبوقرين









