أخبار ومتابعات

د. فايد محمد سعيد : من «التزيين» إلى «الطاعة»: كيف يحذّر القرآن من الانزلاق الخفي إلى عبادة الشيطان؟ قراءة فلسفية في سيكولوجيا الطاعة والهوى.

يوسف خالد

 

يطرح القرآن سؤالًا مزلزلًا للضمير الإنساني: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ﴾ (يس: 60). قد يقول قائل: لا أحد في العصر الحديث يسجد لشيطانٍ أو يعلّق على عنقه تميمةً باسمه؛ فكيف يُنهى الناس عمّا لا يفعلونه؟ هنا يقدّم القرآن تعريفًا أعمق للعبادة يتجاوز الشكل الشعائري إلى جوهر الطاعة والانقياد: من جعل مرجعه الأعلى في الأمر والنهي هوىً أو بشرًا أو أيديولوجيا تُخالف الحق، فقد أشرك طاعةً وإن لم يركع صنميًا. بعبارة فلسفية موجزة: العبادة هي منح السيادة الأخلاقية العليا لمرجعٍ ما؛ فمنحها لغير الحق هو «عبادة» لذلك المرجع وإن لم تُؤدَّ الشعائر له.

هذه المقالة تُحاول تفكيك المسار النفسي-الأخلاقي الذي يُلخّصه القرآن في ثلاثة خيوط كبرى:
1. التزيين: ﴿فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ﴾؛
2. وعد الفقر: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ﴾؛
3. الأمر بالفحشاء: ﴿وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ﴾.
كيف ينتقل الإنسان من استقبال «زخرفة الفكرة» إلى الانقياد العملي حتى يصير — من حيث لا يشعر — مطيعًا لمرجعٍ باطل؟ وما العلاجات الوقائية والعلاجية الممكنة بلغةٍ يفهمها المؤمن وغير المؤمن على السواء؟

أولًا: «التزيين»… حين تتجمل الفكرة قبل أن تتجسّد فعلاً

يقرر القرآن مرارًا أن أول مداخل الانحراف هو التجميل المعرفي والأخلاقي: ﴿فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ﴾. التزيين هنا ليس سحرًا غيبيًا يُفقد الإنسان وعيه، بل آليات نفسية يعرفها علم النفس المعاصر:
1. التحيّز التأكيدي (Confirmation Bias): نبحث عما يؤيد رغبتنا المسبقة، ونهمل ما يخالفها.
2. إعادة التأطير الأخلاقي (Moral Reframing): تُعاد صياغة الفعل القبيح ضمن سردية «قيمة» أعلى (الحرية، تحطيم التابوهات، الواقعية الباردة…).
3. التعوّد والتطبيع (Habituation & Normalization): ما كان صادمًا بالأمس يصير عاديًا اليوم بعد كثرة التعرض، خصوصًا مع وسائل الإعلام وخوارزميات المنصات.
4. التبرير الذكي (Clever Rationalization): العقل — بوصفه محاميًا لا قاضيًا — يصوغ أعذارًا لما قرره الهوى سلفًا.

بهذه السلسلة، لا يُطلب منك الفعل مباشرة؛ يُطلب فقط أن تتسامح مع الفكرة، أن تُسكنها رأسك بلا مقاومة. ومع الوقت تتحول «الفكرة المزيّنة» إلى قيمةٍ مقبولة، ثم إلى هويةٍ تتعصب لها.

خلاصة المرحلة: التزيين يشتغل على المخيال قبل السلوك، وعلى التأويل قبل القرار. مَن يربح المعنى يربح الفعل لاحقًا.

ثانيًا: «يَعِدُكم الفقر»… اقتصاد الخوف وسيكولوجيا الندرة

يضع القرآن إصبعه على جذرٍ عميقٍ من جذور الطاعة الباطلة: الخوف على الرزق. ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ﴾ (البقرة: 268). في علم الاقتصاد السلوكي والسيكولوجيا المعرفية نجد مفاهيم تُضيء هذه الآية:
• عقلية الندرة (Scarcity Mindset): حين يهيمن شعور «لا يكفي» على الوعي، يتقلص الأفق الأخلاقي وتتقدّم «النجاة الفردية» على أي اعتبار.
• كره الخسارة (Loss Aversion): نخاف فقدان ما بأيدينا أكثر من رغبتنا في مكاسب مستقبلية؛ فيصبح المنع والبخل خيارًا «عقلانيًا» ظاهريًا.
• صفرية العالم (Zero-Sum Thinking): نتصور أن ما يصل لغيري ينتقص مني؛ فيُستدعى الظلم والاحتيال لتأمين «حقي».

هذا الوعد بالفقر ليس خبرًا عن المصير بقدر ما هو سلاح نفسي لتوجيه القرار: إذا آمنت أن العطاء ينقُص، وأن الأمان في الاكتناز، ستُعيد تشكيل أخلاقك كلها وفق معادلة خوف، فتُجمّل البخل باسم «التدبير»، وتُبيح الظلم باسم «ضرورات السوق»، وتُعطّل الضمير باسم «البراغماتية». هكذا يصبح الوعد بوّابة إلى الطاعة.

ويقابل هذا الوعد خطابٌ قرآني معاكس: ﴿وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا﴾. ليس المقصود إلغاء الحساب والميزانية، بل تحرير القرار من ابتزاز الخوف، وإعادة ربط الاقتصاد بالأخلاق: العطاء لا يُفقر الروح، بل يحررها من عبودية «النقص». هنا يلتقي الإيمان بعلم النفس الإيجابي: الامتنان يوسّع الإدراك، ويعيد تشكيل علاقة الإنسان بالمال والآخرين.

خلاصة المرحلة: منطق الشيطان: «الخوف يحميك». منطق القرآن: «الطمأنينة تصحّح بصيرتك». ما تخشاه يُديرك، وما تطمئن إليه تُديره.

ثالثًا: «وَيَأْمُرُكم بالفحشاء»… من الإقناع الناعم إلى الأمر السلطوي

بعد التزيين والوعد، نصل إلى أخطر نقطة: الأمر. كيف انتقلنا من زخرفة الفكرة إلى أمرٍ مُلزِم؟ لأن العادة تُولّد الائتلاف، والائتلاف يُولّد الهوية، والهوية تُنتج الطاعة. متى صار مرجعك الأخلاقي — عمليًا — هو هواك أو جماعتك أو أيديولوجياك، فقد منحتها سلطة الأمر والنهي.

«الفحشاء» في القرآن تشمل كل ما يفحش ويعتدي على حدود الكرامة الإنسانية: من ابتذال الجسد إلى ازدراء الضعيف، ومن عبادة الاستهلاك إلى تسليع الإنسان. يبدأ الأمر خافتًا: «جرّب، لا تبالغ في الحساسية»؛ ثم يرتقي: «ادفع الآخرين لذلك، دافع عنه، شرّعه». هنا يظهر البعد الاجتماعي للأمر بالفحشاء: يتحول الفرد من متلقٍ إلى مُروِّج، ومن ممارسٍ خفي إلى مُنظِّرٍ مُجاهر.

تدعم علوم الأعصاب هذا التحول: دوائر المكافأة (Reward Circuits) تتعزّز بالتكرار، ومع الوقت يحتاج الإنسان جرعة أقوى لنفس القدر من الإشباع (Tolerance)، فيتطرف السلوك ويبحث عن العادي-الصدمي. ومع التطبيع الاجتماعي عبر الإعلام، لا يعود الانحراف «خيارًا فرديًا» بل معيارًا جمعيًا يُمارس ضغطه على الجميع.

خلاصة المرحلة: الطاعة تولد حين تُسلّم «سياستك الأخلاقية» لغير الحق؛ عندها لا تكتفي بأن تفعل، بل تُؤمَرُ بأن تفعل — وتُؤمَرُ أن تجعل غيرك يفعل.

رابعًا: متى تصبح «الطاعة» عبادة؟ معيار السيادة الأخلاقية

لا يطالب القرآن القارئ غير المسلم أن يتبنى تعريفًا لاهوتيًا محددًا ليُدرك خطر هذه السلسلة؛ يكفي المعيار الفلسفي التالي:
• لمن تُسند السيادة الأخلاقية العليا حين تتعارض مصلحتك الفورية مع قيمة الكرامة والعدل والرحمة؟
• من يملك حق الأمر والنهي الأخير في سلوكك؟
إذا كان المرجع الأعلى هو هوى النفس، أو ضغط السوق، أو ذائقة الجماعة؛ فأنت — عمليًا — «تعبد» هذا المرجع بمعنى أنك منحتَه السيادة التي تُشكّل أوامرك ونواهيك، ولو بقي لسانك يرفض لفظ «العبادة».

بهذا المعنى، تتحول «عبادة الشيطان» — قرآنيًا — إلى مجازٍ كاشف عن كلِّ طاعةٍ عمياء للباطل، وكلِّ تنازل عن إنسانية الإنسان تحت ابتزاز الخوف أو غواية اللذة أو سطوة القطيع.

خامسًا: تطبيقات معاصرة — حيث تشتغل السلسلة نفسها
1. عبادة المال: من التزيين (المال معيار القيمة) إلى وعد الفقر (إن أنفقتَ هلكت) إلى الأمر بالفحشاء (اغتنِ ولو بظلمٍ مُقنّن).
2. عبادة الجسد والشهرة: من التزيين (تحرّر من «القيود» كلّها) إلى وعد الفقر الرمزي (ستُهمَل إن لم «تُصادم») إلى الأمر بالفحشاء (اصنع المحتوى مهما ابتذل ليضمن التفاعل).
3. الأيديولوجيات المتطرفة: من التزيين (سردية خلاصٍ تبسيطية) إلى وعد الفقر الأمني (الخطر الوشيك يبرر كل شيء) إلى الأمر بالفحشاء (شيطنةُ الآخر وإهدارُ دمه أو كرامته).

هذه الأمثلة لا تستهدف ديانةً أو فئةً بعينها، بل تكشف قانونًا إنسانيًا عامًا: حين يتنازل الإنسان عن مرجعه الأخلاقي الأعلى، يسهل توجيهه بوعود الخوف وأوامر الشهوة.

سادسًا: كيف نكسر السلسلة؟ وقايةٌ وعلاجٌ بلغةٍ إنسانية مشتركة

1) تحصين المعنى قبل السلوك

إذا كان التزيين يبدأ من العقل، فالمواجهة تبدأ منه أيضًا: تعريف المفاهيم (الكرامة، الحرية، المنفعة) تعريفًا غنيًا يحميها من التبسيط الاستهلاكي. من منظورٍ إيماني: مراقبة الله؛ ومن منظورٍ إنساني عام: يقظة الضمير المسنود بمعرفة نقدية.

2) اقتصاد الامتنان مقابل اقتصاد الخوف

مقابل وعد الفقر، تُبنى عقلية الكفاية عبر ممارسات عملية:
• الامتنان اليومي (تمرين نفسي مثبت الأثر)،
• العطاء المنتظم ولو قليلًا (يعيد برمجة علاقة النفس بالمال)،
• الفصل بين الاحتياج الحقيقي والاستهلاك الهويّاتي الذي لا يشبع.

القرآن يعبر عن هذا ببلاغة: ﴿وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ﴾ — ليس وعدًا حسابيًا آليًا، بل قاعدةُ بركة تعيد تشكيل علاقتك بالموارد.

3) هندسة العادة ومقاومة الحلقة القهرية

إذا كانت أوامر الفحشاء تتقوى بالتكرار، فالعلاج يكون عبر:
• هندسة البيئات (تقليل التعرّض للمثيرات)،
• بدائل سلوكية تُشبع الحاجة بطرقٍ أخلاقية (جماعة صالحة، فن راقٍ، رياضة، علم)،
• مساءلة جماعية (مجالس تواصٍ على الحق)،
• توبة عملية تُحوّل الندم إلى خطة.

4) إعادة السيادة إلى موضعها

على المؤمن: ردّ السيادة الأخلاقية إلى الله: ﴿وَأَنِ اعْبُدُونِي﴾ — أي أطيعوني؛ فالتديّن الحق ليس متراكم طقوس فحسب، بل سياسة أخلاقية للحياة.
وعلى غير المؤمن: أن يحرس مرجعه الأخلاقي الأعلى من سطوة السوق والقطيع والهوى؛ لأن إنسانية الإنسان تُقاس بقدرته على قول «لا» للضغط حين يُخالف الكرامة.

سابعًا: «لا تعبدوا الشيطان»… تجديد العهد الإنساني

يأتي التحذير القرآني في سياق عهدٍ: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ﴾. العهد خطاب فطرةٍ وعقل، لا قمع فيه ولا إكراه؛ يذكّر الإنسان بما يعرفه في أعماقه: أن أخلاقه ليست تفصيلًا تجميليًا في هامش حياته، بل البوصلة التي تحدد من يكون.

وعندما يُتمّ القرآن المعادلة بقوله: ﴿وَأَنِ اعْبُدُونِي هَٰذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ (يس: 61)، فهو لا يستبدل عبودية بعبودية، بل يخلّص الإنسان من عبوديات الهوى والسوق والقطيع إلى حرية الطاعة للحق؛ طاعةٍ تُعيد ترتيب الرغبات، وتفتح إمكانات الرحمة والعدل والعطاء.

خاتمة: ميثاق النجاة في ثلاث جُمل
1. احرس المعنى قبل أن تحرس السلوك: فالتزيين يبدأ من الرأس.
2. اكسر ابتزاز الخوف بالامتنان والعطاء: وعدُ الفقر يُفشل الضمير إن صدّقته.
3. أعد السيادة الأخلاقية إلى موضعها: فمنحُها للباطل — أيًّا كان اسمُه — هو جوهر «عبادة الشيطان».

بهذا الفهم، يصبح التحذير القرآني نداءً إنسانيًا كونيًا: لا تُسلِّم قرارك الأخلاقي لأحدٍ سوى الحق؛ لا تجعل الخوف أو الشهوة أو القطيع يكتبون نيابةً عنك «كتاب حياتك». فإن فعلت، وجدت نفسك — من حيث لا تدري — قد سلكت الطريق من «التزيين» إلى «الأمر»، ومن «الفكرة» إلى «الطاعة»، وهو عين ما حذّر منه النص: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ… أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ﴾.

والله وليّ الذين آمنوا، يخرجهم من الظلمات إلى النور؛ ومن آثر أن تكون مرجعيته الحق — إيمانًا أو عقلًا — فقد نجا من عبودية كل باطلٍ، وكتب حريته بيده.

 

زر الذهاب إلى الأعلى