
أصدرت إيطاليا في السابع عشر من سبتمبر عام 2025 أول قانون وطني شامل ينظم استخدام الذكاء الاصطناعي، لتصبح بذلك أول دولة في الاتحاد الأوروبي تمتلك إطارًا قانونيًا متكاملًا ومتوافقًا مع اللائحة الأوروبية المعروفة بـ قانون الذكاء الاصطناعي الأوروبي 2024/1689 والتي دخلت الى حيز التنفيذ منذ الأول من أغسطس العام الماضي، حيث يُعد هذا القانون خطوة حاسمة في مسار الانتقال نحو المستقبل الرقمي، إذ لا يقتصر على ضبط التقنية بل يهدف إلى تعزيز الاستخدام الآمن والمسؤول للذكاء الاصطناعي، وضمان احترام حقوق الإنسان، والخصوصية، والسيادة الوطنية في مواجهة التحولات التقنية المتسارعة وقد حظي القانون بموافقة واسعة داخل البرلمان الإيطالي، حيث صوّت لصالحه 77 عضوًا مقابل 55 معارضًا وامتناع عضوين.
بدأت الرحلة التشريعية في أبريل 2024 تزامنا مع الاعداد لاصدار قانون الاتحاد الأوروبي للذكاء الاصطناعي EU AI ACT، حيث قم وزير العدل الإيطالي “كارلو نورديو” بعرض مشروع القانون على مجلس الوزراء، ليُحالبعد ذلك إلى غرفتي البرلمان، حيث أُقرّ في مجلس الشيوخ أولًا في مارس 2025، ثم عُدّل وأعيد إلى المجلس نفسه في يونيو من العام ذاته، ليُعتمد نهائيًا في سبتمبر 2025 والحقيقة انه توجد تُعدّ موائمة كبيرة و جلية مع القانون الأوروبي ، إذ ينص القانون الإيطالي صراحة وفى مادته الاولى على أن تفسيره وتطبيقه يجب أن يتوافق مع لائحة الاتحاد الأوروبي رقم 2024/1689 ، فهو بل يهدف إلى تسهيل التطبيق العملي للائحة داخل السياق الوطني، عبر إنشاء هياكل تنفيذية محلية ومؤسسات إشرافية متخصصة.
تفاصيل القانون
يتكوّن القانون من 28 مادة موزّعة على ستة فصول رئيسية، تغطي الجوانب التالية:
الفصل الأول – المبادئ الأساسية والاهداف العامة
يرتكز القانون الإيطالي على الإنسان بوصفه محور المنظومة التقنية، وهو ما يتجلى في المادة الأولى التي تحدد الغاية من التشريع حيث ينص على انها من اجل “تعزيز الاستخدام الصحيح والشفاف والمسؤول للذكاء الاصطناعي بما يركّز على الإنسان.”
وتضع المادة الثالثة الأسس الفلسفية التي تقوم عليها سياسة القانون وهى:
ويُعد مبدأ الرقابة البشرية أحد أهم الالتزامات القانونية، إذ يُحظر تطوير أو تشغيل أنظمة ذكاء اصطناعي دون إمكانية التدخل الإنساني المباشر، حفاظًا على استقلالية القرار البشري وهى نقطة في غاية الأهمية وتغلق الباب امام المخاوف المرتبطة بالحرية الكاملة غير المراقبة لتلك الأنظمة مما قد يؤدى الى مشكلات وازمات او كوارث جراء خروج تلك الأنظمة على السيطرة، كما شددت المادة الرابعة على حماية القُصَّر، فأوجبت موافقة الوالدين لمن هم دون الرابعة عشرة، وسمحت باستقلال الموافقة بين 14 و18 عامًا بشرط أن تكون المعلومات مبسطة وواضحة.
كما تؤكد المادة الخامسة على أن الدولة الإيطالية تسعى لجعل الذكاء الاصطناعي رافعة اقتصادية وطنية، من خلال:
هذا البند يُبرز مفهوم السيادة الرقمية الذي تتبناه إيطاليا، باعتبار أن السيطرة على البيانات تمثل ركيزة أساسية للاستقلال الاقتصادي والأمني في العصر الرقمي.
وفي المادة السادسة، التي تناول القانون علاقة الذكاء الاصطناعي بالأمن القومي، استبعد المشرّع الأنشطة الاستخباراتية والعسكرية والشرطية من نطاق التطبيق المباشر، لكنه ألزم هذه الجهات بوضع لوائح داخلية تراعي الحقوق الأساسية الواردة في الدستور وبهذا التوازن، أراد المشرّع ألا يتحول الأمن القومي إلى ذريعة لخرق الخصوصية أو التجسس خارج الإطار القانوني.
الفصل الثاني – تطبيقات الذكاء الاصطناعي في القطاعات المختلفة
المادة السابعة رسّخت مبدأ أن الذكاء الاصطناعي يجب أن يساعد الأطباء ولا يحل محلهم وأكدت على دوره في الوقاية، والتشخيص، والعلاج، دون المساس بسلطة الطبيب في اتخاذ القرار النهائي، كما منعت الأنظمة من استخدام معايير تمييزية في الوصول إلى الخدمات الصحية ضمانا لعدالة الحصول على الخدمات لكافة المواطنين، كما أنشأت منصة الذكاء الاصطناعي الصحية الوطنية تحت إشراف وزارة الصحة ووكالة AGENAS، لتوفير حلول ذكاء اصطناعي تدعم الممارسة الطبية، وتسهّل الوصول إلى خدمات الرعاية الصحية.
أحدثت المادة الثامنة تحولًا ثوريًا حين سمحت بمعالجة البيانات الشخصية الحساسة لأغراض البحث العلمي دون موافقة إضافية من صاحبها، بشرط أن تكون هذه البيانات قد جُمعت سابقًا لأغراض علاجية وأن تتم إزالة العناصر التعريفية منها التي يمكن من خلالها الاستدلال على صاحبها وهذا توازن رائع بين الخصوصية وتشجيع البحث العلمي لطالما أحدث جدلا كبيرا ووعود كثيرة لم ينفذ منها الا القليل مما كان يجعل الباحثين في هذا المجال اللجوء الى المتطوعين بما في ذلك من صعوبة وتكلفة وهو ما كان يؤثر كثيرا على دقة النتائج.
أُنشئت بموجب المادة العاشرة منصة وطنية لسوق العمل طبقا للمادتين11 و12 حيث تنظمان استخدام الذكاء الاصطناعي في بيئة العمل بهدف تحسين السلامة والإنتاجية، لا لمراقبة العمال أو انتهاك خصوصيتهم، كما تم انشاء مرصد وطني بوزارة العمل لرصد أثر الذكاء الاصطناعي ووضع سياسات التدريب للعاملين للتوافق مع متطلبات العمل الجديدة في ظل وجود أنظمة الذكاء الاصطناعي.
المادة 13 نصّت على أن الذكاء الاصطناعي يجب أن يُستخدم كأداة مساعدة في الأعمال المهنية والفكرية، وليس كبديل للعنصر البشري، كما ألزمت المهنيين بإبلاغ عملائهم عند استخدام أدوات ذكاء اصطناعي في أعمالهم لضمان الشفافية وهى تعليمات سبق ان ظهرت في الكثير من مواثيق الاستخدام المسؤول في الكثير من دول العالم ولكن هنا ولأول مرة تظهر في شكل بنود في تشريع ملزم.
المادة 14 رسمت ملامح الإدارة الذكية الحديثة، إذ أوجبت على الجهات الحكومية استخدام الذكاء الاصطناعي لتحسين الكفاءة وتسريع الإجراءات، مع الحفاظ على المسؤولية البشرية الكاملة عن القرارات الإدارية.
المادة 15 عالجت العلاقة الحساسة بين الذكاء الاصطناعي والنظام القضائي، مؤكدة أن القرار القضائي يظل إنسانيًا بالكامل.
يسمح باستخدام الذكاء الاصطناعي في تنظيم العمل القضائي فقط، لا في تفسير القانون أو تقييم الأدلة، مع إلزام وزارة العدل بتدريب القضاة على التعامل مع التقنيات الجديدة.
الفصل الثالث – الحوكمة الوطنية والاستراتيجية العامة
القانون أنشأ منظومة حوكمة متعددة المستويات:
كما خُصّصت المادة 23 لتأسيس صندوق استثماري بقيمة مليار يورو لدعم الشركات العاملة في الذكاء الاصطناعي والأمن السيبرانى، بما يرسخ الدور الاقتصادي للتكنولوجيا في التنمية الوطنية.
الفصل الرابع – حماية المستخدم وحقوق الملكية الفكرية
تُعتبر المادة 25 من أكثر المواد جدلًا، إذ تتعلق بحقوق الطبع والنشر في عصر الذكاء الاصطناعي، حيث نصّت على أن العمل الإبداعي الناتج عن استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي يظل محميًا طالما أن العنصر الإبداعي البشري هو الأصل في إنتاجه،
كما سمحت المادة باستخراج النصوص والبيانات من الأعمال المنشورة لتدريب النماذج، شريطة احترام حقوق المؤلفين.
هذا التوازن بين الحق في الابتكار والحق في الحماية الفكرية يُعدّ من أبرز سمات القانون الإيطالي، الذي رفض فكرة اعتبار الذكاء الاصطناعي “مؤلفًا” مستقلًا.
الفصل الخامس – الجرائم والعقوبات المرتبطة بالذكاء الاصطناعي.
المادة 26 أضافت ظرفًا مشددًا في قانون العقوبات الإيطالي لكل جريمة تُرتكب باستخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي، إذا كان استعمالها يزيد من خطورة الجريمة أو يعيق الدفاع. او محاولات المنع
قدّمت مادة أخرى عقوبة السجن من سنة إلى خمس سنوات لكل من ينشر صورًا أو مقاطع معدلة بالذكاء الاصطناعي دون موافقة أصحابها بقصد الإضرار بهم، وتُعدّ هذه المادة استجابة مباشرة لتفشي المحتوى الإباحي المزيف وانتشاره، خصوصًا الذي يستهدف النساء، حيث ارتفعت الحالات بنسبة 500% وفق البيانات الأوروبية.
شُددت العقوبات في جرائم مثل شهادة الزور، والتداول بناء على معلومات داخلية، وغسل الأموال إذا تم استخدام الذكاء الاصطناعي لتنفيذها وذلك لترسيخ مبدأ المساءلة التقنية، أي أن استخدام الأدوات الذكية لا يُعفي الجاني من المسؤولية بل يزيدها.
الفصل السادس – احكام التنسيق والاستدامة المالية والتنفيذية
ألزمت المادة 27 الحكومة بالحفاظ على الاستقرار المالي أثناء تطبيق القانون، مع تخصيص تمويل محدود للمشاريع التجريبية، أما المادة 28 فوضّحت العلاقة بين هذا القانون والتشريعات السابقة، وأتاحت التعاون الدولي بين الهيئات الإيطالية ونظيراتها الأوروبية والدول الأعضاء في حلف الناتو في مجالات الذكاء الاصطناعي والأمن السيبرانى.
تعليق أخير
رغم أهمية القانون وتركيزه على تحديات بعينها الا انه يواجه عددا من التحديات منها صعوبة إعداد اللوائح التنفيذية خلال عام واحد من دخوله حيز النفاذونقص الكفاءات التقنية في القطاع العام لتنفيذ الإشراف والرقابة وضعف الاستثمار الوطني، حيث لا تزال نسبة الشركات الإيطالية المستثمرة في الذكاء الاصطناعي أقل من 20%. وكذا أيضا التوازن بين الابتكار والحماية القانونية، خصوصًا في المجالات الحساسة كالصحة والقضاء و لكن و بصفة عامة فان هذا القانون يعتبر اول تطبيق على مستوى دولة ما وهو ما سيساعد الكثير من الدول في الإسراع بسنن قوانين مشابهة فالذكاء الاصطناعي واحد و يمس كافة المستخدمين والمواطنين في كافة دول العالم بصورة مشابهة الى حد كبير.










