أخبار ومتابعاتمقالات الرأى

أ.د. فايد محمد سعيد: قراءة قرآنية في فلسفة الابتلاء ومنهج الخلاص الوجودي

متابعات يوتوبيا

 

تمهيد: نحن كائنات تبحث عن الراحة في عالم صُمّم للابتلاء

نحن نعيش في عالم لا يخلو من المعاناة، مهما بلغنا من قوة أو علْم أو جاه. نحلم جميعًا بحياةٍ مستقرةٍ صافية لا كدر فيها، ولكنّ القرآن الكريم يواجهنا منذ البداية بحقيقة كبرى لا مجاملة فيها: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ}. أي أن المشقة ليست عرضًا طارئًا في الوجود؛ بل هي جزء من تصميم الحياة نفسها.

ومهما حاولنا الهروب من هذه الحقيقة، فإنّ التجربة تثبتها لنا يومًا بعد يوم. نحن نريد حياة تُشبه الفردوس، بينما سُنّة العالم قائمة على الامتحان والشدائد. وقد عبّر الشاعر عن هذه المفارقة ببلاغة حين قال:

طُبِعَتْ على كَدَرٍ وأنتَ تُريدُها
صَفْواً من الأقذاءِ والأقذارِ
ومُكلِّفُ الأيّامِ ضدَّ طِباعِها
مُتطلِّبٌ في الماءِ جَذوةَ نارِ

نحن — في أعماقنا — نرفض فكرة الألم، ونُخاصم قدر التعب، ونستغرب كيف يمرّ الإنسان بفقدٍ ومرضٍ وحيرةٍ وخذلانٍ وقلقٍ وخوفٍ، بينما كان أملُه أن يَسير كلُّ شيء كما يشتهي. لكنّ القرآن يضع القاعدة منذ البدء: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ}.

هذه ليست دعوة لليأس، بل دعوة للفهم. فإذا فهمنا أن الحياة ابتلاء، كان من الطبيعي أن نسأل: فما هو المخرج؟

وهنا يبدأ جوهر هذا المقال.

فطرة الإنسان إلى الملجأ الأعلى: لماذا نبحث عن حلٍّ يتجاوز طاقتنا؟

نحن — دون أن نُدرك — نحمل في داخلنا استشعارًا دائمًا بأن قدرتنا محدودة مهما بلغنا من قوة. لذلك، حين تُغلق الأبواب، لا نسأل فقط: “ماذا أفعل؟” بل نسأل — بصوتٍ أعمق من الكلمات — “أين أذهب؟”.

حتى من لا يعترف إيمانًا بالله، يشعر في لحظات الانكسار أن داخله حاجةً إلى قوة أعظم من ذاته. يسميها بعضهم “الطاقة الكونية”، أو “القدر”، أو “العناية الخفية”. لكن القرآن يسميها باسمها الواضح: الله.

إن الإنسان حين يصل إلى حافة عجزه — لا يبحث عن شرحٍ فلسفي، ولا عن تحليلٍ منطقي — بل يبحث عن سند. عن أحد يقول له: “أنا هنا من أجلك.”

ولهذا قال القرآن:
{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ}

لم يقُل: “يُجيب المؤمن” بل قال: “المضطر”، لأن الاضطرار حالة وجودية، قبل أن تكون حالة إيمانية. إنها لحظة تسقط فيها كل الأقنعة، ويتكلم فيها القلب بصدقٍ نادر: “يا رب، أنقذني.”

نموذج الثلاثة الذين خُلِّفوا: حين تنتهي الأسباب، يبدأ الفرج

نحن نقرأ قصة الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، فنظنها قصة تاريخية فحسب. لكنها — في الحقيقة — وصف دقيق لحالة بشرية نمرّ بها جميعًا:
أن تُحاصر من الخارج، وتختنق من الداخل، حتى لا يتبقى لك إلا أن ترفع يديك إلى السماء.

يقول الله في وصف حالتهم:

{ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ، وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ، ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ}

تأمل قوة التعبير:
• أولًا ضاقت عليهم الأرض — أي لم يعودوا يجدون في الدنيا منفذًا ولا مخرجًا.
• ثم ضاقت عليهم أنفسهم — وهذا أشدّ، لأنك قد تهرب من الناس، ولكن كيف تهرب من نفسك؟
• ثم ظنّوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه — وهذه لحظة الإدراك العظيم: أن المفرّ إليه لا منه.

ثم جاءت النتيجة: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} — أي فتح الله لهم ما لم يكن متاحًا من قبل.

إن هذا النموذج القرآني يؤكد أن نهاية السعي البشري هي بداية العطاء الإلهي. وأن الله لا يتخلى عن من رجع إليه بصدق، ولو بعد تأخر.

نموذج المرأة التي سمع اللهُ قولَها: حين لا ينصفك الناس، يسمعك رب الناس

نحن قد نعيش الظلم فنبحث عن منصفٍ من البشر، لكن لا أحد يستوعب آهاتنا كما نريد. فتلك المرأة — خولة بنت ثعلبة — لم تجد من ينصفها، رغم وصولها إلى النبي ﷺ، وظلت تُجادل وتُكرّر وتبكي.

لكن النقلة الحقيقية لم تحدث عندما اشتكت للنبي، بل حين اشتكت إلى الله.

قال الله في مطلع السورة التي خلدت قصتها:

{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ}

لقد تحوّلت شكواها من كونها مظلومة في الأرض إلى قضية مسموعة في السماء.

ومن هنا نفهم قاعدة عظمى:

الناس يسمعون كلماتنا، لكن الله يسمع قلوبنا.

وهذا هو جوهر معنى أن الله هو الحل الوحيد — لأن كل حلٍّ لا يرى قلبك، يظل ناقصًا، حتى إن أصلح ظاهرك.

منهج الخلاص في القرآن: كيف نصل إلى حالة “الاضطرار الإيماني”؟

قد يسأل سائل: إذا كان الله هو النصير والمعين، فلماذا لا نتوجه إليه من البداية؟ لماذا نلجأ إلى الناس والأسباب، ثم لا نتذكر الله إلا عند الانسداد؟

القرآن يجيب — بصدق ووضوح — أن الإنسان مجبول على التعلق بالأسباب أولًا، وأن هذا جزء من طبيعته. قال تعالى:

{كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَىٰ}

نحن حين نظن أن لدينا قدرةً أو مالًا أو جاهًا أو علاقات، نشعر — دون أن نقصد — أننا مستغنون عن اللجوء إلى الله. فنؤجل التوجه إليه حتى “نرى كل الأبواب مغلقة”.

لكن القرآن لا يُدين هذه الطبيعة فقط، بل يعيد توجيهها. فالله لا يقول لنا: لا تأخذوا بالأسباب، بل يقول:

﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾

أي خذ بالأسباب بيدك، لكن لا تجعل قلبك معلقًا بها؛ بل علّقه بالله.

فالمطلوب ليس أن نترك التخطيط، أو نبطل العمل، أو نعزل أنفسنا عن الواقع. بل المطلوب أن نُدرك أن الأسباب تعمل بأمر الله، وتتوقف بأمر الله، وتنجح إذا أراد الله.

الإيمان هنا ليس نظرية، بل موقف وجودي:
أن تقول — في عمقك — “يا رب، أفعل ما أستطيع، لكني أعلم أن النجاح منك لا منّي”.

الله هو النصير: ليس شعارًا وعظيًا بل نظرية وجودية

حين نقول: “الله هو الحل الوحيد”، قد يتبادر إلى ذهن البعض أن هذه عبارة عاطفية تُقال في لحظات اليأس. لكنها في الحقيقة أعمق من ذلك بكثير.

إنها خلاصة المنهج القرآني في التعامل مع الوجود نفسه:
• نحن نُبتلى — وهذا ليس ضعفًا فينا، بل طبيعة الحياة.
• نحن نبحث عن حلول — وهذا ليس خطأً فينا، بل جزء من فطرتنا.
• لكننا — في نهاية المطاف — ندرك أن العقل يقف عند حد، والعلم يقف عند حد، والطب يقف عند حد، والمال يقف عند حد…
• ثم نصل أخيرًا إلى تلك اللحظة النورانية التي يصفها القرآن:

{أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ}

كل الأمور، مهما تعقّدت — تصير إليه.

لحظة الميلاد من جديد

هناك لحظة في حياة كل واحد منا — إن صدق مع نفسه — يشعر فيها أن الله لم يكن أحد الحلول، بل كان الحل الوحيد.

ليست لحظة ضعف، بل لحظة بصيرة.

ليست هروبًا من الواقع، بل مواجهة له بمنهج أعلى.

تلك اللحظة هي التي وصفها القرآن:

{وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ}

أي أدركوا أن الملجأ ليس من الله، بل إلى الله.

الخاتمة: من الشكوى إلى السكينة

لسنا مطالبين بأن نكون بلا مشاكل؛ فالحياة قد صُمّمت أصلًا على الابتلاء. لكننا مطالبون بأن نعرف الطريق الصحيح إلى النجاة.

والطريق ليس في الهروب، ولا في الادعاء أن كل شيء تحت السيطرة، بل في أن نكون صادقين مع أنفسنا، فنقول:

“اللهم لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك.”

عندها فقط — تبدأ الحياة الحقيقية.

 

اللهم يا مَن خلقت هذا القلب لتسكن فيه، لا ليضيع في التيه…

يا مَن جعلت الشدائد طريقًا إلى الصفاء، والعجز بابًا إلى القوة، والدمعة جسرًا إلى الرحمة…

نسألك — يا ملجأ المضطرين، وملاذ الحائرين — أن لا تتركنا لأنفسنا طرفة عين.

علّمنا كيف نأخذ بالأسباب دون أن نغفل عن المسبّب، وكيف نسعى في الأرض دون أن ننسى أن الأمر كله لك.

اللهم إذا ضاقت علينا الأرض بما رحبت، فافتح لنا أبواب السماء. وإذا ضاقت علينا أنفسنا، فافتح لنا أبواب رحمتك. واجعلنا من الذين يعودون إليك لا حين تنهار قواهم فقط، بل وهم في تمام القوة، اعترافًا بعجزهم بين يديك.

يا الله…

لسنا نسألك خلوّ الحياة من الابتلاء، ولكن نسألك قلبًا يعرف الطريق إليك في كل ابتلاء.

فأنت — وحدك — الحل. وإليك — وحدك — الملجأ. ومنك — وحدك — السلام.

زر الذهاب إلى الأعلى