ومضات على الطريق للدكتور عزيز أبو الليل : الومضة الثامنة: نشأة بني إسرائيل -الجزء الأول

استعرضنا في الومضة السابقة كيف انتصر الحقُ ولو بعد حين؟ وكيف أصبحت مكانةُ يوسف عليه السلام؟ وكيف أصبح مآلُ أخوته؟ … لكن من هنا يبدأ نسل بني اسرائيل في الأرض، وهي أخطر مرحلة تمر بها البشرية، فكر جديد… عقلية مغايرة … فماذا هم فاعلون؟ وإلى أي طريق يسيرون؟ وهو ما سوف نبدأ الحديث عنه في الحلقات القادمة بإذن الله تعالى.
لا شك أن الحديث عن بني إسرائيل من أصعب ما يكون، ويكمن ذلك في المصادر التي يمكن الاعتماد عليها، والتي تعتمد في المقام الأول على الإسرائيليات، وليعلم القاصي والداني أنه قد أُبيح لنا الحديث عن بني إسرائيل بلا حرج ما لم يخالف قولهم شرعنا، وهنا سوف يكون الأمر على حرف وخيط رفيع بين الحقيقة والكذب، سوف نبتعد جاهدين بقدر الإمكان عن الخلافات في الآراء، والبعد عن عجائب الأمور وما يشذ منها، وهنا نحن لا نحكي قصصًا أو أمورًا مرتبطة بالعقيدة أو التدين لكن العبرة والعظة هي هدفنا وغايتنا، وهذا دأبونا في تلك الومضات من أول الطريق.
ويستمر الطريق بنا، وقد رأينا كيف توطن أخوة يوسف عليه السلام بمصر؟ وكيف استمر نسل بني إسرائيل من يعقوب (إسرائيل) عليه السلام ثم أبنائه الاثني عشرالذين سكنوا مصربجوار أخيهم يوسف عليه السلام كما رأينا سلفًا؟ وقد كان عدد بني إسرائيل سبعين نفسًا وقت المجاعة، وقيل إن النشأة الأولى كانت لهم قبل حوالي أربعة آلاف سنة أي في القرن السابع عشر قبل الميلاد، وقيل إن أصلهم من نسل الكنعانيين الذين سكنوا بلاد المشرق.
هنا فائدة جليلة، كما ذكرنا مرارًا أن النسب إلى الأنبياء لا يفيد صاحبه إلا لمن يكن صالحًا وإلا فلن تنفعه صلة ولو كان بنبي أو رسول، وقد رأينا ذلك في قابيل بن أدم عليه السلام، ومن بعده بن نوح عليه السلام وزوجته، وآزر أبو إبراهيم عليه السلام، وزوجة لوط عليه السلام، كل هؤلاء وغيرهم ممن لهم صلة مباشرة بالأنبياء لم تنفعه تلك الصلة، فما بالكم بمن لهم صلة غير مباشرة بهم “نسل بني إسرائيل” هل تنفعهم تلك الصلة البعيدة أم تكون عليهم حُجة وتزيد من ذنبهم وإثمهم حال مخالفة أوامرالله؟ فمن أبطأ به عملُه لم يُسرع به نسبُه.
ومصر في ذلك العصر كانت مسكونة بالقبط، وبعد ذلك دخلها بني إسرائيل في عهد يوسف عليه السلام، وكلمة قبطى هنا ليس معناها مسيحي لكن معناها المصري القديم، لكن لما أحتل الرومان مصر كانوا على المسيحية فحدث ذلك الخلط في المعنى.
عاش بنو إسرائيل حياة طيبة في حياة يوسف عليه السلام وبعد وفاته إبان حكم ملوك الرعاة “الهكسوس” لأنهم كانوا تحت كنفهم ورعايتهم حتى انتهي حكم الهكسوس وعاد الحكم إلى الفراعنة، فكانت تلك الرعاية من الهكسوس نكبة عليهم، وكان عليهم أن يذوبوا في المجتمع المصري إلا أن ذلك لم يحدث، حيث إن فرعون وجد عددهم نحو ستمائة ألف رجل خلاف النساء والأطفال، فخاف من كثرة عددهم وسبق طاعتهم لملوك الهكسوس الذين سبق لهم أن أزاحوا حكم الفراعنة، فأذلهم وجعلهم يعملون بالسخرة وقتل الذكور واستحي النساء (أبقاهم على الحياة) حتى لا تقم لهم قائمة ويقضي على الحياة والنوع، فتبقي النساء دون قوة تساندهم، مما جعلهم يتساءلون أين ذلك الإله الذي حدثونا عنه أباءنا؟ لماذا لا يخلصنا من هذا العذب؟ نعم لقد ذَبُلَ الأيمان في قلوب هذا الجيل من بني إسرائيل، فقد رأوا أنهم أهل الإيمان يعيشون حياة قاسية وأهل المعصية ينعمون ويتمتعون بالحياة.
وهنا فائدة عظيمة، أن دوام َالحالِ من المُحالِ، فمهما نَعِمت لابد من زوالِ النِعمة، ومهما قاسيت لابد أن يأتي يوم تزولُ فيه الشدة، فالحياة قائمة على التبديل والتغيير لا خير دائم وشر مستمر، كما أن القلوب بين أصبعي من أصابع الرحمن يقلبهم كيف يشاء(ليس كأصابعنا، ليس كمثله شىء وهو السميع البصير)، يُمسي العبد مؤمنًا ويصبح غير ذلك، فلا تستند على بشر مهما كان فإما يترك مكانه أو يتغير من جانبك، دائمًا وأبدأ يكون الإتكأ على الله وإليه، لذلك قيل ففرورا إلى الله ولا تفروا منه، فهو الوحيد الذي نفر إليه وليس منه، حتى من يعتقد في الأمور المادية فيجب أن تستند إلى من لا يتغير وتظل له القدرة على العون والمساندة، فهو كل يوم في شأن لعباده؛ يعز أقوامًا ويذل آخرين.
حتى جاء موسى عليه السلام مأمورًا من الله بإخراج بني إسرائيل من مصر وتخليصهم مما هم فيه من العذاب والمهانة والبلاء.
لكن من هو موسى عليه السلام؟ وما هي صلته ببني إسرائيل؟
نعود قليلًا للوراء حيث يرى فرعون رؤيا أنه سوف يُولد من بني إسرائيل من يُزيل ملكه، وبالرغم من أن تأويل تلك الرؤيا معناه أنه لا مناص من هلاك ملكه إلا أنه أخذ يقتل كل مولود من بني إسرائيل، ظنًا منه أنه قادرعلى تغيير قدر الله، بجانب أنه دليل على أنه ليس إلهًا؛ لأنه لوكان إلهًا لما هلك ملكه، ولو كان إلهًا لعَلِم من هذا الطفل الذي سيُولد فيقتله وحده دون القتل الجماعي أو العشوائي لكل هؤلاء الأطفال.
وعندما ولد هذا الطفل الصغير “موسى عليه السلام” ما كان من أمه إلا أن خافت عليه من القتل فأوحى إليها ربها؛ أنه إذا خفتي عليه فضعيه في صندوق صغير وألقيه في اليم، هل هذا معقول عندما تخاف الأم على صغيرها تضعه في صندوق وتلقيه في اليم (موت محقق)، فكيف تهرب من موت محتمل إلى موت محقق؟! وليس كذلك فحسب بل يأخذه عدوه! أمر عجيب وطاعة من الأم أعجب! وبعيدًا عن الخلاف في مسالة الوحي لأم موسى عليه السلام والذي لا يكون إلا للأنبياء والمرسلين، فكان ذلك رفعًا لمنزلتها بالوحي إليها مباشرة أي كان شكل ذلك الوحي.
وهنا تطلب أم موسى من أبنتها متابعة الصندوق، والذي وصل إلى قصر فرعون على النيل ( بيت عدوه) ومن ثم الهلاك لا محالة؛ لأنه سيُعرف أن هذا الطفل من بني إسرائيل فيقتلوه، لكن الله ألقى المحبة عليه في قلب إمرأة فرعون التي لم يكن لديها أولاد من فرعون، فكان الأمر ألا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدًا وهم لايشعرون بأن هلاكهم على يد هذا الطفل الصغير، وقيل إن فرعون أراد اختبار هذا الطفل، هل هو طفل كبقية الأطفال أم أن له قدرات خاصة تجعل منه تهديدًا لعرشه، فوضع له جمرة من نار وتمرة، والطفل لايستطيع أن يميز بينهما، إلا أن نور النبوة الكامن في موسى عليه السلام جعله يُمد يده إلى التمرة خشية الحرق من الجمرة، هنا سوف ينكشف الأمر، ويُعلم فرعون أن هذا الطفل ليس طفلًا كبقية الأطفال فيقلته، فيأخذ أحد الملائكة يد موسى إلى الجمرة ويضعها في فمه بدلًا من التمرة، هنا وهنا فقط يُوقن فرعون أنه مجرد طفل ليس له تأثير على ملكه، وبعيدًا عما قيل في تأثير ذلك على لسان موسى عليه السلام بين الحقيقة والكذب إلا أن الأمر مر بسلام عليه ونجاة من القتل حتى يتربى موسى عليه السلام في بيت عدوه.
وهنا فائدة هامة، أنه لو اجتمعت الأمة على أن ينفعوك بشىء لن ينفعوك إلا بشىء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعت على أن يَضروك فلن يَضروك إلا بشىء قد كتبه الله عليك، فقد اجتمع فرعون وقومه على قتل هذا الطفل الصغير فلم يستطيعوا، بل أردا الله ولا راد لقدره أن يترتبى في بيت عدوه..إلقاء محبة ونجاح في اختبار .. ما كان لهذا الصغير أن يفعله لو توسطت الدنيا بأثرها لموسى عليه السلام، لكنها جنود الله يُسيّر بها الأمور كيفما شاء وأينما شاء وقتما شاء.
أخيرًا… رأينا كيف توطن بني اسرائيل في مصر؟ وكيف أذاقهم فرعون سوء العذاب؟ وكيف تم تهديد ملك فرعون بمولود صغير وكيف ترتبى هذا المولودد في بيت عدوه؟ … لكن ماذا سيحدث بعد ذلك بين بني إسرائيل وموسى وبين فرعون؟ وهو ما سوف نتحدث عنه في الحلقات القادمة بإذن الله تعالى.