ومضات على الطريق للدكتور عزيز أبو الليل .. الومضةُ الرابعة (أبا الأنبياء إبراهيم عليه السلام الذي كان أمة)
ومضاتٌ على الطريقِ
الومضةُ الرابعة (أبا الأنبياء إبراهيم عليه السلام الذي كان أمة)
استعرضنا في الومضة السابقة ماذا فعل نَسلُ آدم الأوائل؟ وكيف كانت أول خطيئة على الأرض بقتل قابيل لهابيل؟ وكيف جاءت عبادة الأصنام؟ وكيف بدأت الحياة البشرية بعد طوفان نوح عليه السلام من جديد؟ ماذا فعل الإنسان ردًا على نعم الله التي أنعم بها عليه؟ وانتهينا إلى أن اللهَ قد خلَق هذا الكون الفسيح ليكون في خدمة الإنسان؛ ليتفرغ الإنسان لطاعة الله وعبادته.
وتمرُالأيام، وتتعاقب السنون، وتتسارع الأحداث حتى نصلَ إلى هذا الإنسان الذي أتمَ كلمات الله، ووَفْىَ مع الله، وكان إمامًا للناس يُقتدى به ويُحتذى حَذوه، وكان وحده أُمة، إنه أبا الأنبياء إبراهيم عليه السلام … كيف كانت له كل تلك المناقب؟ وكيف وصل إلى تلك الدرجات والمقامات العُلى؟
وكان إبراهيم عليه السلام أبا الأنبياء حيث أنجب كل من إسماعيل عليه السلام الذى كان من نسله سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم، كما أنجب اسحاق عليه السلام والذي كان من نسله يعقوب عليه السلام الذي كان من نسله يوسف عليه السلام حتى عيسى عليه السلام، وقيل أن من نسل إبراهيم عليه السلام كل الأنبياء بعده عدا ثمانية.
هناك مشهد عظيم من مشاهد رأفة ولين إبراهيم عليه السلام، فنراه وهو يتحدث مع أباه (قيل عمه) غير المؤمن يتحدث معه بصيغة الرأفة والحكمة والموعظة الحسنة، فنراه يعدد في حديثه من ألفاظ “يا أبتي” حتى يستخرج منه عاطفة الأبوة ويهتدي إلى الطريق القويم، إلا إن الهدى بيد الله يهدي به من يشاء الهداية، وقيل في من يشاء الهداية قولان؛ أما من يشاء اللهُ أن يهديه وهذا الأشهر، وقيل إذا شاء العبد الهداية صدقًا هداه الله فارجعوا الهداية بداية لإرادة العبد ثم إرادة الله.
وقد وَفْىَ إبراهيم عليه السلام، وكان أمامًا، وأتم كلمات الله حتى أصبحَ أمة؛ لأنه تعرضَ لاختبارات كثيرة أداها على أكمل وجه، وأدى ما كُلف به وانتهى عما نُهى عنه، وكان الوحيد الذي يؤمن بالله وحده في عصره وسط عالم يعج بالمعصية، حتى أنه بَيّن لقومه تضارب فكرهم؛ عندما كسرالأصنام التي يعبدونها، وقال لهم أسالوهم إن كانوا صادقين؟ فرجعوا إلى أنفسهم إنك تعلم أنهم لا يسمعون ولا يتكلمون! من هذا الإله الذي لايسمع ولايتكلم ولايستطيع أن يدافع عن نفسه من مخلوق من خلقه؟! وهو ما يشابه ما ورد في الأثر أن إبليس قد طرق الباب على فرعون – وهو ما كان يَدّعي أنه إله من دون الله- فقال له فرعون من بالباب؟ قال خَسِئتَ إله ولاتَعرف مَنْ بالباب.
لكن قوم إبراهيم سرعان ما انتبهوا لذلك فاصروا على الباطل، كطبيعة الإنسان الذى يتكبرعلى الرجوع إلى الحق عندما يظهر له، وألقوه في نار صنعوها له خصيصًا، أوقدوا عليها حتى استعرت، وقيل أن الطيور لم تستطع الطيران فوقها من شدة حراراتها، فلم يستطيعوا الاقتراتب من النار لوضع إبراهيم عليه السلام فيها فوضعه في كفة المنجنيق وقذفه إليها، فما ألقوه قال حسبي الله ونعم الوكيل، وهنا يأتي جبريل عليه السلام إلى إبراهيم عليه السلام، ويسأله هل لك من حاجة أقضيها لك، فيرد عليه الردالواثق بربه ليكون نبرسًا للايمان الكامل بالله أما لك فلا.. أما من الله فبلى … في تلك المحنة العظيمة أيمكن أن يكون هذا بشرًا عاديًا ..لا إنه أمة كاملة عامرة بالايمان، فينجييه الله من النار، وتكون تلك النار المستعمرة ذات الخاصية المحرقة بردًا وسلامًا عليه، فهي بردًا عليه من الإحراق وسلامًا عليه من الإهلاك بالبرد، وعليه تدل أنها استثناء بعده تعود النار لخواصها في الاحراق والاهلاك.
وهناك مشهد أخرعظيم لهذا العبد الأمة؛ وهو عندما جادل النمرود، بداية من هو هذا النمرود؟ هو النمرود بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح، ملك بابل الذي قيل أنه مكث في الحكم أربعمائة عام؛ كان أباه ملكًا، فأغواه الشيطان، فسجد للشيطان ليُعلّمه السحر(الوحيد الذى تعلم السحر من الشيطان مباشرة)، وقتل أباه حتى يتولى الحكم من بعده، فأصبح أحد الملوك الأربع الذين ملكوا الأرض من مشرقها لمغربها (الملوك الأربع؛ مؤمنان وهما سليمان عليه السلام وذو القرنين، وكافران وهما النمرود وبختنصر)، يقف إبراهيم عليه السلام في مواجهة هذا الملك الجبار الذي أنكر وجود الله ثم أدعي أنه إله من دون الله، وطلب من إبراهيم عليه السلام الدليل على وجود الله، هنا بَيّن له إبراهيم عليه السلام أن الله يحي ويميت، وهنا المفاجأة عندما يقلب هذا الملك الحقائق عندما قال له أنا أُحي وأُميت، وذلك بأن جاء برجلين استحقا القتل، فعَفى عن أحدهما مدعيًا أنه قد أحياه، وقتل الأخرمدعيًا أنه قد أماته، وكان ذكاء إبراهيم عليه السلام بأن ترك الجدال غير المجدي مع هذا المدعي وثم أعطاه الدليل القاطع والحجة البالغة؛ بأن الله يأتي بالشمس من المشرق وطلب منه أن يأتي بها المغرب؛ فبُهت الذي كفر، وقيل عاقبه الله هو وجنوده بأن سلط عليه أقل المخلوقات “البعوض” التي أهلكتهم، ودخلت إحداها في منخرى النمرود فكان لايهدئ حتى يُضرب بالنعال على رأسه حتى قتله أحد جنوده.
وتتجلى طاعة هذا العبد وتصل إلى ذروتها، عندما بلغ من العمر أرذله دون ولد، ويهبه الله اسماعيل عليه السلام، ويبلغ هذا الولد مبلغه صبيًا يافعًا مليئًا بصفات البنوة الحسنة فمتلء قلب إبراهيم عليه السلام بحبه، هنا كان الاختبار العظيم عندما أمره ربه بقتل ابنه.. هل هذا شىء منطقي؟! ليس هذا فحسب بل عليه قتل ابنه بنفسه، فيأتي إبليس له ويراجعه في ذلك بأنه ابنه وأنها مجرد رؤية، فيرده إبراهيم عليه السلام ويرميه بالجمرات، ثم يأتي لزوجته هاجر عليها السلام أم إسماعيل عليه السلام لذات الأمر فترجمه أيضًا، ثم يأتي لإسماعيل فيرجمه ايضًا، فكانت الجمرات الثلاث التي نقوم بها في الحج إحياءً لتلك الواقعة، وهنا يستسلم الثلاثة لقضاء الله وقدره، ولنتخيل هذا المشهد المهيب.. يقف إبراهيم عليه السلام لينفذ حكم الله، ويقف الصبي الصغير يريد تمام التنفيذ ويطلب من أباه أن يَسِن السكين حتى ينهي الأمر بسرعة، وأن يقيده جيدًا حتى لايهرب، وأن يقلب على وجهه على الأرض حتى لا ينظر إليه فيَحن قلبه، قمة في الاستسلام والانسياق والطاعة لأمر الله، وهو أمر غير مقبول عقلًا وفقًا للفكر البشري، وهنا لا تقوم السكين المسنونة بعملها، عُطّلت كما عُطّلت النار عن الإحراق عندما أُلقي إبراهيم في النار، وينزل كبشين أملحين من السماء فداءً لإسماعيل عليه السلام، وتكون من مناسك الحج ومناسك عيد الاضحى أيضًا، أذن لماذا كان هذا الأمر طالما كانت النجاة؟! الإجابة أن الله أراد أن ينزع من قلب إبراهيم عليه السلام أى حب يُمكن أن يطغى على حب الله ولو كان لأقرب الناس إليه ابنه الذى رُزق به على كِبر لأنها هبة الله يأخذها وقتما شاء دون سخط أو إعتراض فيصبح قلب إبراهيم عليه السلام خالصًا لله وحده، وهو ما حدث ليعقوب ويوسف عليهما السلام أيضًا.
الومضة اليوم مضيئة؛ حيث تظهر وبجلاء في الإخلاص لله عز وجل، وكيف يمكن أن يصلَ الإنسان بطاعته لأوامرالله ونواهيه إلى منزلة الإخلاص، فيَرتقي إلى أن يكون عبدًا ربانيًا لله يقوم للشىء كون فيكون، ويغيرالله لأجله نواميس الكون فالنار لا تحرق، والسكين لا تقطع، والبعوض يَقتل جيوشًا ويُسقط عروشًا، ويعلم القاصي والدانى أنك لن تستطيع أن تغير شيئًا في ملك الله مهمًا بلغت قدرتك إلا بإراته، وكل ما ترجوه هو أن تعرف كيف تصل إلى تلك العلاقة بين الإنسان وربه، وكيف تحافظ عليها في كل الاختبارات والابتلاءات، بل كيف تقتدي بتلك النماذج المشرقة، وتبتعد عن النماذج الأخرى التي أبتْ أن تَنصاعَ لطريق الله، متى نصل إلى نتيجة مؤداها أنك أنت أول طريق الهداية، وأن الله يهدي من يقف على أول هذا الطريق، هذا ما سوف نستكمله في الحلقات التالية بعون الله وتوفيقه.