ومضاتٌ على الطريق للدكتور عزيز أبو الليل: الومضةُ التاسعة (الجزء الثاني: بنو إسرائيل وموسى عليه السلام)

استعرضنا في الومضة السابقة كيف توطن بنو اسرائيل في مصر؟ وكيف أذاقهم فرعون سوءَ العذاب؟ وكيف تم تهديد مُلك فِرعون بمولود صغير؟ وما فعلته أم موسى عليه السلام بوضعه وهو رضيع في صندوق ورميه في الماء؟ وكيف أصبح فؤادها فارغًا مما يَضبطُ التصرف، إلى أن ربط الله على قلبها، لاسيما وأن لكل إنسان منا صدر به قلب، والقلب به فؤاد (وقد يذكر الفؤاد ويُراد به القلب، وذلك عندما يكون به قضايا تحركه)؟ وكيف ألقى محبته في قلوب أعدائه؟ وكيف تربى هذا المولود في بيت عدوه؟ … وبذلك اصطفى الله موسى عليه السلام من بين خلقه برسالته وبكلامه، وأخلصه من شوائب، لكن ماذا سيحدث بعد ذلك لموسى عليه السلام؟ وهو ما سوف نتحدث عنه هنا .
وتمر الأيام، وتتسارع الأحداث، ويدخل موسى عليه السلام المدينة (منف) وقت القيلولة (في غفلة من أهلها)، لأن بني إسرائيل كانوا مضطهدين وممنوعين من دخول بعض المدن لكثرة أعدائهم فيها، هنا يجد موسى عليه السلام رجلين يتشاجران؛ أحدهما من بني إسرائيل والآخر من القبط، فاستغاثه الذي من بني إسرائيل على القبطي فوكزه موسى عليه السلام بمجمع يديه فجاء قدره بالموت عند الوكزة لا بها، فاستغفر موسى عليه السلام ربه فتاب عليه، وعاهد ربه أنه لن يكون مُعينًا للمجرمين، وأصبح بعد هذه الواقعة خائفًا يترقب من بطش الناس به، وفي اليوم التالي وجد الرجل الذي استغاثه بالأمس يستصرخه ضد شخص أخر فنهره موسى عليه السلام، لكنه حَنَّ عليه ولم يتركه لخصمه فقال له الرجل أتريد أن تكون جبارًا في الأرض، فجاء من أقصى المدينة رجل يحذره من فرعون وقومه، وينصحه بالهروب، فهرب موسى عليه السلام متخفيًا خشية أن يراه أحد.
وهنا فائدة عظيمة، كيف كان المجتمع في عهد فِرعون مُقسمًا طوافَ وشيعًا، مما ساعد على وجود كثير من الفتن بينهم، كما أن الإنسان مهمًا بلغت منزلته فإنه يُخطيء ويُصيب، ولكن عليه أن يعود إلى الله فور الخطأ، فهو وحده من يَفِرُ الناس إليه وليس منه، مما يجعله تحت مظلة المغفرة والعفو من الله سبحانه وتعالى.
وهنا يتجه موسى عليه السلام إلى مدين، فيرى القوم َيَسقون من البئر إلا إمرأتان تقفان عن بعد حتى لا يُزاحمنْ الرجال، وتمنعان الأغنام من المزاحمة عندما تندفع إلى البئر، فاستغرب وسألهما عن ذلك الأمر العجيب، فاظهرتا له الحكمة من ذلك؛ أنهما قد أُجبرتا على الخروج ومزاحمة الرجال لسبب واحد؛ أن أبوهما شيخ كبير ولا يوجد من يَرعى حالهما، ففتح لهما البئر الذى لا يقدر على رفعه إلا العصبة من الرجال، وسَقى لهما وتولى إلى الظل دون انتظار لشكر منهما، فجاءته أحداهنَّ بعد فترة تمشي على استحياء تدعوه لأبيها ليجزيه أجر ما سقى لهما، وكانت المكافأة أن تلك المرأة طلبت من أبيها أن يستأجره عندهم لأنه القوى (رفع غطاء البئر وحده) الأمين (في طريق الذهاب لأبيها كان يمشي أمامها وليس خلفها حتى لا يُفُتن بها)، فزوجه أبوها (نبي الله شعيب) لأحدى ابنتيه على أن يمكث معه ويعمل في خدمته ثمان سنوات أو عشر، وأتمها موسى عليه السلام بالزيادة عشر سنوات، ثم طلب العودة إلى مصر مع أهله.
هنا فوائد عظيمة، أن هاتين المرأتين وضعتا قضية هامة؛ أن المرأة تخرج للعمل إذا احتاج المجتمع إليها أو للضرورة “وأبونا شيخ كبير”، وتُأخذ الضرورة بقدرها “لا نسقي حتى يُصدِر الرعاء”، والمجتمع الإيماني عليه مساعدة أصحاب تلك الحالات “فسقى لهما”، وأن المرأة عندما تتعامل مع الرجل تمشي على استحياء، وأن الرجل لا يمشي خلف إمرأة لا تحل له ولا يخضع بالقول الفاحش ، وهي ضوابط وسلوكيات نتواخاها في مجتمعاتنا المعاصرة، ويقع فيها البعض بحجة الحداثة والحرية مما أحدث خللًا كبيرًا في مجتمعاتنا، كما أن المهر يجب أن يسمى عند الزواج لكن لا يلزم أن يُسدد كاملًا قبله (مقدم ومؤخر) كما أن المهر لا يُشترط فيه أن يكون مالًا بل يجوز أن يكون عملًا (تأجُرني ثماني حجج).
هنا يأتي مشهد العودة إلى مصر، وفي طريق العودة، يصل موسى ومن معه (زوجته وابنه وخادمه) إلى جبل الطور بسانت كاترين بجنوب سيناء، حيث الظلام الدامس والبرد الشديد والمطر المنهمر والتيه في الصحراء، يلتمس أي شىء للتدفئة والدليل في الطريق، فيأنس نارًا لا يراها من معه من أهله (ويطلق على الزوجة أهل الرجل وجماعته) سواه، لأنها ليست نارًا مادية من صنع البشر، ويطلب منهم البقاء فإن كانت نارًا مشتعلة أتى لهم بشعلة، وإن كانت لهبًا أتى لهم بجذوة أو جمرة منها.
وهنا يأتي المشهد المَهيب، اللقاء الأول، الوحي المباشر من الله، التجلي الأعظم، كلام الله، اتصال السماء بالأرض، حيث يصل موسى عليه السلام في الزمان المُحدد إلى المكان المعين، ويرى نورًا يتلألأ في شجرة، فلا خضرة الشجرة تؤثر على النور فتبهته، ولا النور يطغى عليها فيُضعفها، ويسمع نداءً لم يَسمعه من قبل “يا موسى إني أنا ربك”، المُنِادي يَعرفُ المُنَادى جيدًا، لكنَّ المُنَادى لا يَعرفه، أين مصدر النداء؟ وقد ذكر الله لفظ ربك للطمأنينة والإيناس؛ لأن لفظ الأُلوهية “الله” يكون عند التكليف والعبادة فهو المُطاع فيما يَأمر، لكن الرب عطاء بلا مقابل؛ لأنه المُربي لجميع الخلائق؛ الخالق الرازق المدبر، ثم آنسه بسؤاله عن عصاه، ما تلك بيمينك يا موسى؟ وهو أعلم بها، فستأنس موسى عليه السلام وأخذ يُعددُ مهامها كمن يستأنس بعزيز عليه ويُطيلُ معه الحديث، ويطلب منه أن يُلقيها، فتتحول تلك العصا إلى حية تًسعى … وهذا ليس من قبيل السحر بل من قبيل تحول الحقيقي للشىء من الجماد إلى الحيوان (لأن السحر لا يحول الشىء وإنما يُخيله للناس) … شىء مخيف!! … فأمره ربه أن يأخذها ولا يخف… هل يفعل ذلك ويأتمر بهذا الأمر؟ نعم يُطيع الأمر لأُنسه بمن يأمره، فتتحول الحية إلى عصا مرة أخرى، تدريبًا عمليًا لمهمة سيَفعلُها بعد ذلك في موقف (أمام فِرعون) لا تنفع معه حينذًا التجارب، فيأمره بالذهاب إلى فِرعون وإخراج بني إسرائيل من تحت سيطرته، ويأمره بأن يأخذ معه أخاه هارون عونًا له، لما له من فصاحة ومعرفة بلغة قومه، وكما ذكرنا سلفًا أنه لم يكن هناك عيب في لسان موسى عليه السلام نتج عن وضع الجمرة في فمه وهو طفل صغير.
أخيرًا… رأينا كيف خرج موسى عليه السلام من مصر؟ وكيف وصل مدين؟ وكيف تزوج من ابنة شعيب عليه السلام ؟ وكيف كانت رحلة الرجوع إلى مصر؟ وكيف كان التجلي الأعظم عليه عند شجرة التجلي؟ وكيف أمره ربه بدعوة فِرعون؟ … لكن ماذا سيحدث معه عندما يذهب إلى فِرعون؟ وهو ما سوف نتحدث عنه في الحلقات القادمة بإذن الله تعالى.