د محمد عبد الرحيم البيومي يكتب : بين عزة الاستسلام وكرامة الخضوع
لا يختلف إنسان على أن كلمة (الاستسلام) تقترن في الأذهان بكثير من المعاني السلبية، مثل الخنوع والذل والهوان، وحق لكل حر أبي أن يلمح في تلك الكلمة هذه المعاني والدلالات السلبية. غير أن هذه الكلمة تحمل كل معاني العزة والفخار إذا ما اقترنت بلفظ الجلالة (الله) وأصبحت مقترنة بـ»الاستسلام لله «عز وجل .، ورؤيته وشهوده في كل شيء؛ فأهل الله يرون أن الصائم لا يشهد الشهر بل بشهد أنوار الحق، ولذا فهو في معراج دائم وصيام متصل كما يقول سيدي القشيري في لطائف الإشارات = تفسير القشيري (1/ 153) (أما الخواص فصومهم لله لأن شهودهم الله وفطرهم بالله وإقبالهم على الله والغالب عليهم الله، والذي هم به محو- الله). وهذا حال صدق الإنسان في العبودية لخالقه ومولاه، إنها عبودية يأخذ العبد فيها خير سيده، فكلما التصق العبد بربه وباريه كلما فاض العطاء منه سبحانه عليه. من أجل هذا أقول، إن الصدق في العبودية والاستسلام لله لدلالة على كمال الإيمان لدى الإنسان ألم يقل الحق «فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما»، ومن ثم فلا غرابة إن رأينا الاستسلام هو خلق الأنبياء والمرسلين، فها هو خليل الرحمن عليه السلام جعل الحق سبحانه وتعالى الاستسلام والخضوع لجلاله عنواناً وشعاراً له ولذريته من بعده، حتى اصطفاه الله تعالى أباً للأنبياء جميعاً. فالخليل عليه السلام شيخ كبير أراد أن يقر الله عينه بولد تسرى فيه نور النبوة من بعده، فوهبه الحق سبحانه إسماعيل عليه السلام، ذلك الوليد الذي ما أن بلغ أشده، حتى رأى أبوه في المنام أنه يذبحه، فما كان منه إلا أن استيقظ من نومه مستسلماً ومرحباً بأمر الله ثم استشار ولده فيما رآه، فكان الولد أشد استسلاماً لأمر الله عز وجل، ولعل ذلك تفسير وتجسيد حي لمعنى قول الله سبحانه وتعالى الذي وصف الله فيه خليله وذريته حين قال «إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ *وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ» البقرة 131-132 . فكان من نتيجة ذلك استسلام وخضوع لله، حرر الله به خليله من أسر حب الذات وحب الولد إلى التسامي في الحب والخضوع لله. يقول سبحانه مشيراً إلى ما دار بين الخليل وولده «فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ» الصافات 102، بل إن إسماعيل عليه السلام الذي تحرر من حب الذات معلياً فوقه استسلامه وخضوعه لربه، وبره لوالده، أعطاه هذا الاستسلام الإيجابي لأمر الله قوة وثباتاً بها غاب عن نفسه، ولم ينتبه إلا إلى أسرته من حوله فقال لوالده: يا أبت إذا أردت أن تذبحني، فكبني على وجهي كي لا تنظر إلى عيني فتأخذك بي رأفة تحول بينك وأمر الله تعالى، وشمر عن ثيابك كي لا تتطاير الدماء عليها فتراها أمي فتحزن على فراقي، واشحذ مشفرك فإن الموت شديد. فماذا كانت نتيجة هذا الاستسلام التام والمطلق من الخليل وولده لله عز وجل؟ أولاً: تغلب على نزعات النفس والهوى، وسد لمنافذ الشيطان. ثانياً: منحة ومنة من الله عز وجل للخليل وولده عليهما السلام، فكان الفداء الذي هو سنة للمسلمين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. يقول سبحانه « فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ* وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ *قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ *إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاء الْمُبِينُ *وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ» الصافات 103-107 . ثالثاً: إن إبراهيم عليه السلام عندما استسلم لربه، وجاد بولده كأن الله قال له: يا إبراهيم رضيت بقدري فسأعطيك على قدري. فكان الفداء لإسماعيل والبشارة بإسحق، يقول سبحانه «سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ *كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ *إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ* وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ» الصافات 109-112. رابعاً: إن فداء إسماعيل عليه السلام كان رحمة للحيوان فوق كونه شعيرة للإنسان، إذ أخذ الفقهاء من موقف إسماعيل عليه السلام عند الذبح آداباً وأخلاقيات يتعامل بها الإنسان مع الحيوان عند ذبحه والانتفاع به، فقالوا: يسن أن لا يذبح حيوان أمام حيوان لما يحدثه ذلك من ألم في نفس الآخر، وقالوا كذلك يسن أن يشحذ الإنسان مشفره كي لا يتألم الحيوان عند ذبحه، وليضجعه على ما يريحه، وليسم الله. من هنا جاء تأكيد الإسلام من خلال أقوال نبيه صلى الله عليه وسلم على ما للحيوان من حق قبل أن تعرف ذلك البشرية في أزمنتها المعاصرة. فقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً أضجع شاة يحد شفرته أمامها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أتريد أن تميتها موتات؟! هلا حددت شفرتك قبل أن تضجعها؟! بل إننا وجدنا أعلام الفقهاء ينظرون إلى الدودة وهى كائن صغير على أن لها حقاً ينبغي أن يحترم، فقرر الإمام أحمد عدم إباحة تعريض دودة القز للشمس إلا لضرورات الصناعة، فكان بذلك مبدأ المصلحة والإحسان للحيوان وغيره من مخلوقات الله تعالى ثمرة من ثمرات إيجابية الاستسلام والخضوع لله تعالى. وفى الوقت ذاته عبرة يستلهم المسلم من خلال مدارسته تلك الواقعة كيف يحصل بذلك الاعتزاز بالنفس، ذلك أن الاستسلام لله يحرره من عبودية البشر، ويملأ جوانحه وجميع أقطاب نفسه وذاته بالعبودية فقط لرب البشر. من أجل ذلك وجدنا سعيد بن جبير وهو من أئمة التابعين يقف أمام الحجاج بن يوسف وهو من هو في التجبر، فيقول له الحجاج: يا سعيد والله لأصلينك ناراً تلظى. فيقول سعيد بصوت لا يعرف الخضوع والاستسلام إلا لله: والله لو أعلم أنك تملكها لعبدتك من دون الله. وهكذا تكون إيجابية الاستسلام لله درساً يستلهمه الإنسان من نسمات التشريع في الإسلام، فيتحقق له بذلك العزة والرفعة التي أرادها الله تعالى للمتمسكين بحبله الموفين بعهده، فاعتزاز المسلم بنفسه ودينه ثمرة لإيجابية الاستسلام لربه ومحصلة لكبرياء الإيمان الذي فيه تمرد على الهوان بقدر ما فيه من الاستكانة لله عز وجل، كما يمثل قمة الترفع على مغريات الأرض، وأباطيل الحياة، وفوق ذلك كله فيه الانخفاض إلى خدمة كافة خلق الله تعالى، والتبسط لهم ومعهم، واحترام الحق الذي يجمع الإنسان بهم وبذلك تتحقق العزة بشتى صورها وأصدق سبلها، وصدق الله تعالى إذ يقول «مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ» فاطر 10. ويقول تعالى «وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ « المنافقون 8. إن الخضوع والاستسلام الحق للباري سبحانه لهو في حقيقته رضا بتصاريف الأقدار، إذ يقول الإنسان لنفسه أرح بالك أنت لا تحمل هماً لمن كان له أب فكيف تحمل الهم لمن كان له رب. ويقول كذلك مخاطباً ربه، إلهي وسيدي ومولاي رضيت بحكمك ثقة في حكمتك فإذا ما منعنتي يا خالقي في لحظة من ليل أو نهار فمنعك إياي هو في حقيقته قمة العطاء، هنا يسمع الإنسان ترانيم الحمد تسري في ذاته تقول له إذا ما رضيت بقدر الله فأبشر فإن العطاء سيكون على قدر كرم الله. «إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب»
أ.د محمد عبد الرحيم البيومي
عميد أصول الدين جامعة الأزهر