د محمد عبد الرحيم البيومي يكتب: البيت الحرام ومصر حكاية في موكب الزمان
إن المتأمل في موكب الزمان في سيرته ومسيرته يلمح علاقة لها من خصوصية الارتباط والتعلق بين أرض الكنانة والمكانة والبيت الحرام ما يلمح فيها من قسمات النور وعبق الهداية، تتجلى هذه العلاقة في مشهد جليل تنبعث منه الأنوار وتتألق فيه الفيوضات، بدايته من عطاء مصر الهدية لسيدنا إبراهيم وهي هاجر – عليها السلام – التي تزوجها، فكانت مفتاح الوصول لمدد الارتباط والوصل الذي لا ينقطع .
حين انتقلت هاجر مع زوجها خليل الله إبراهيم حاملة مدد النبوة الذي تنقل نوره في الأصلاب والأرحام ، خرجت من مصر تاركة أصولها لتصبح أماً للعرب في بلاد الحجاز، حيث كانت البداية .
عندما جاء الأمر الإلهي أن ضع زوجتك وابنك الذي وهبه الله لك بعد أن بلغت من الكبر عتيا في هذا المكان الموحش في عين الناظر وتلك الصحراء القاحلة بلا طعام ولا شراب ، أمر لا يَقْدِر عليه إلا من ذاق الحب الإلهي، وكان من ذوى المقامات فيه، وما ذلك الأمر إلا ليُصنع ولدها سيدنا إسماعيل على عين الله ، ولاعتبار أن مدد الله لا بداية له ولا نهاية ، صار الاستحقاق الذي من قبيل الفضل لأسلافه ، وأين هم ؟ إنهم في مصر .
تحكي القصص أن الاستجابة كانت من خليل الرحمن بلا تردد ولا تأويل ولا أعذار، بل سارع ونفذ الأمر مدركا تمام العناية والرعاية واللطف من الله؛ فترك زوجه وابنه في هذه الصحراء التي لا يوجد بها ما يدل على الحياة، فقالت له ابنة مصر وقتها وجَدَّتهم : آلله أمرك بهذا؟ فيرد عليها نعم، فتقول له الكلمة التي صارت مضمونا للسطور الأولى في العلاقة بين أرض الكنانة والبيت الحرام، قالت ( إذن لن يضيعنا الله أبداً)هي من؟
هي بنت مصر، معها من يبني ويرفع القواعد للبيت مع أبيه، ويحمل في ظهره محمداً صلى الله عليه وسلم؛ لذا من وقتها صار البيت الحرام وأهله وكذا مصر وديعة الله في كونه فصارت الكعبة ومصر محميتان مرعیتان ما أرادهما جبار بسوء إلا قصمه الله .
يأتي المشهد الثاني في موكب الزمان حامل القصص، مشهد الخضوع والمسكنة والفقر من الخليل عليه السلام لخالقه ومولاه ، حيث حكى القرآن على لسانه {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ، رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ، وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37] فلم يكتف خليل الرحمن بدعاء معتاد طالبا فيه الحفظ واللطف والرعاية بل حكى سيدنا إبراهيم حاله كما تَعَلَّم منه أهل السلوك إلى الله فأرباب الأحوال يخاطبون الله بأحوالهم ويتقربون إلى الله بجميل عبادتهم [ لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ ] فكان طلب الأمنية الشاملة الجامعة المانعة { فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم } التي تكون إحدى وسائل الأمنية الخاصة التي بها تستقيم الحياة { وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ} لتكون النتيجة مقام الشكر والعرفان لصاحب الإنعام والإكرام جل وعلا، نعم فمن هذا المزيج المبهر تحققت الأماني، فمصر والبيت الحرام تهوي إليهما القلوب وتشتاق إليهما الأفئدة إلى يوم القيامة استجابة لدعوة الخليل، لاعتبار كرامة الأم هاجر والنبي المولود.
إذا كانت الكعبة قبلة الصلاة فإن مصر قبلة العلم والعلماء والأولياء في أزهرها الشريف الذي تهوي إليه القلوب كما تهوي لمكة ، ومصر والبيت الحرام تتنزل عليهما الخيرات والنفحات والبركات فهما محل لكل خير مادي ومعنوي، وفي مكة زمزم طعام طعم وشفاء سقم، وفي مصر نيل مصر نهر من أنهار الجنة ، وإذا كان في البيت الحرام يكثر الشكر والثناء على الله من كل طائف وعاكف وناظر ، فإنه في رحاب مساجد آل بيت رسول الله تجد الشكر والثناء على الله عند كل ولى من أولياء الله، فهذا المشهد الممزوج بكل دلائل الحب والعناية والإجابة من الله جسد مددا لا ينفد وعطاءً لا ينقطع، فهو يسري في رحاب مكة ومصر كما يسري الماء الورد، وكم ترى في حكايات المحبين ما لا يُرى ولكنه الحب.
يأتي المشهد الثالث يصور الأمن والأمان، فبمرور السنين وانتقال العلاقة المتبادلة والتشابه بين المكانين من جيل إلى جيل ومن طبقة إلى طبقة ولا يمتلأ قلب بحب مكة إلا ويمتلأ بحب مصر، ولكن مع وجود الحب كان لابد من وجود الأمان، والعجيب أن صك الأمان على البلدين نزل به القرآن الكريم ففي شأن البيت الحرام قال الله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنَيْنَ مُخَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ} وفي شأن مصر وأهلها قال:{ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [يوسف: 99] فالأولى استجابة لدعوة نبي الله إبراهيم {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} والثانية دعوة من يوسف عليه السلام الذي سكن مصر وتشرب حبها من جده إبراهيم فذكر بدعاء جده إبراهيم ليستمر المدد، وإن شئت قلت ليؤكد عليه، وامتد طلب الأمن إلى نسل النبوة حيث كانت دعوة المشيرة – رضي الله عنها – سيدتنا زينب لأهل مصر الذين استقبلوها بحفاوة لكونها من آل بيت رسول الله ، فقالت [ يا أهل مصر نصرتمونا نصركم الله، وآويتمونا آواكم الله، أعنتمونا أعانكم الله وجعل الله لكم من كل مصيبة فرجا ومن كل ضيق مخرجا فصارت هذه الدعوة أمنا أمانا وسلما سلاما على مصر وأهلها فهي محكومة مرعية بدعوات آل بيت رسول الله .
يأتي المشهد الرابع ليملأ العين والقلب تعجبا ، وذلك حينما تجد في ختام كل صلاة { اللهم صل على مُحَمَّد وعلى آل مُحَمَّد كَمَا صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على مُحَمَّد وعلى آل مُحَمَّد كَما باركت على آل إِبْرَاهِيم إنك حميد مجيد} وهي صلاة لا تصح بغيرها صلاة فهي مشتملة على الدعاء والبركة والصلة وأن الله وضع ذلك في إبراهيم وآل بيت إبراهيم، ومحمد وآل بيت محمد فأن منشأ أل إبراهيم ثم من بعدهم آل محمد كان بمكة، وكان امتدادهم وكمالهم بمصر المحروسة بآل بيت رسول الله وكأن تلك الصلاة الإبراهيمية المشهودة التي يتردد صداها تصور شجرة آل البيت أصلا في مكة وفروعا في مصر مشمولة بالدعاء بالرحمة والبركة فلا عجب أن يكون هناك الحرم الحسيني والحرم الزينبي كلاهما يستمد أنواره من الحرم المكي والحرم النبوي، وإن كان في خاطري أن الله قد تجلى على الحرم المكي بصفات الجلال، فاشهدها في مصر إن عجزت وهدئ روعك عند المشهد الزينبي، وإن كان قد تجلى على الحرم المدني بصفات الجمال فاشهدها في مصر إن عجزت وهدئ روعك عند المشهد الحسيني.
وكلهم من رسول الله ملتمس غرفا من البحر أو رشفا من الديم
يأتي المشهد الخامس في الارتباط بين مصر والحرم المكي يتجلى فيه التعظيم من أهل مصر لأول بيت وضع للناس في الأرض كسوة الكعبة، فقد كانت الكعبة تكسى بكسوة شريفة من الحرير الأسود منقوشا عليها آيات من كتاب الله عز وجل، فموكب التاريخ يحكي أن تاريخ الكسوة راجع إلى ما قبل عصر النبوة وامتد في عصر النبوة بإقرار الكسوة من جانب رسول الله ومن تبعه من الخلفاء وأمراء المؤمنين، ويتم تغييرها كل عام، وتوزع بعد التغيير على فقراء المسلمين، كم فعل ذلك سيدنا عمر ابن الخطاب وذكر ذلك البخاري في صحيحه لما كان فيها من الذهب والفضة، وهذا ما ترجم له البخاري في صحيحه، ولسنا بصدد سرد تاريخي في تاريخ الكسوة المشرفة، ولكن الشاهد هنا أن الكسوة كانت الدليل الناصع المبهر المسفر على العلاقة بين الحرم ومصر، فقد كانت تصنع في أمصار مختلفة ثم تهدى إلى الكعبة المشرفة ولكن أطول فترة صنعت فيها الكسوة كانت في مصر في دار كسوة الكعبة، وكان لها من الطقوس ومواكب التبجيل والتعظيم والاحتفاء بالكسوة مالم يوجد في غيرها من الأمصار والبقاع، وما كان ذلك إلا لمزيد حب وقر في قلوب أهل مصر، فعلى مدار سبعة قرون و موكب الكسوة الشريفة يطوف ويجوب شوارع القاهرة، بل وكورنيش الإسكندرية أحيانا في احتفالية عظيمة في أغلبها يكون حاكم الدولة شخصيا أو من ينوب عنه وتحمل في محملها ومعها الحجيج ومن أتي من بلاد المغرب العربي لأداء فريضة الحج، فكانت مصر هي محط الحجاج والمعتمرين الذين يأتون إليها لنيل شرف مصاحبة أمير الحج المصري وهو يحمل معه الكسوة الشريفة مزينة بخيوط الذهب والفضة التي صنعت من خلال وقف مخصوص في قريتين من محافظة القليوبية ومعه من الخيرات والهدايا والعطايا لأهل مكة والمدينة المنورة والحجيج من مختلف الأمصار ما يكفى ويزيد، وكيف لا يأتي بهذا الخير والبلد التي خرج منها قال عنها ربها في محكم كتابه على لسان نبي الله يوسف عليه السلام {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } وكانت الكسوة تدخل بيت الله الحرام في جو مليء بالاحتفال والفرحة والبهجة والدفوف وأحيانا الموسيقى مصحوبة بالتهليل والتكبير والتحميد والتلبية، وكيف لا يكون كذلك وقد أتى بها من انفطرت قلوبهم حبا لرسول الله وآل بيته وكأن لسان حالهم يقول:
من النيل شرياني إلى البيت يمتد وشوقي لمكة ما له حد
وكان شارع الأزهر محل الانطلاق لتكون البداية في الأزهر والنهاية في الحرم في طريق مشحون بالخير والبركة والدعوات والأذكار والأنوار والأسرار.
مع جمال صنع الكسوة في العصر الحاضر وتغيرها في أيام الحج من كل عام تبقى لمسة قاهرة المعز وأزهر العلم شيء أخر؛ لأنها صنعت بأيد الحب ونسجت خيوطها بأشواق أنفس لم تر في الوجود جمالاً وجلالًا يضاهي بيت الله الحرام فاستدعت من غياهب التاريخ ذكريات شاخصة إلى الفاروق عمر – رضي الله عنه – وهو يوصي أن تطرز الكسوة المشرفة بقماش القباطي الذي ينسب اسمه إلى أقباط مصر واشتهرت بتصنيعه مدينة الفيوم فكأن هذا المشهد استدعاءً عمرياً للحمة الوطنية التي عرفت بها مصر منذ دخول الإسلام فيها، فقد ذكرت الروايات التاريخية أن سيدنا عمرو بن العاص كان يشرف على صناعتها بنفسه، ويرعاها بعينه، وتتوالى الذكريات مع كسوة الكعبة ليَرى هارون الرشيد ومن قبله الخليفة المهدي وهما في دار الخلافة ببغداد أن كسوة الكعبة أحق بها مصر وأهلها فكان يسجل على الكسوة المباركة ما يدل على الصناعة زماناً ومكاناً ومع شجرة الدر بدأت فكرة المحمل حتى باتت نفقات تصنيع كسوة الكعبة ضمن المقررات الرسمية بخزانة الدولة المصرية وتأسست لها دار الخرنفش في حي باب الشعرية.
تأبى رحلة النور إلا أن تبلغ كمالها منطلقة من أرض الكنانة فتجتمع مع كسوة الكعبة كسوة الحجرة النبوية الشريفة محبة وإجلالاً لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي يبلغ ارتفاعها أربعة عشر متراً ويحليها في الثلث الأعلى منها حزام يعرف بحزام الكعبة مطرز بخيوط الذهب والفضة ومنقوش عليها كلمة التوحيد ” لا إله إلا الله محمد رسول الله ” ومحلاة بأحرف وكلمات الإجلال والذكر لله رب العالمين ليحيط بكل ذلك أسفَلَه سورة الإخلاص وكأنها رسالة بأن المشهد المهيب منبعه قلوب أخلصت في عملها لله رب العالمين هاتفة في سمع الزمان ومسرى الأيام بأن الوجهة مقبلة على الله الأحد الفرد الصمد من بلد دعا لها يوسف الصديق فقال “ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين “.
ولارتباط الكسوة بمدد السماء لأنها رداء لأطهر بقعة في المعمورة بيت الله الحرام كأن الحق سبحانه وتعالى أراد لأهل مصر أن يتنسموا عبير الحج في بلدهم حتى وإن قصرت بهم السبل عن اللحاق بركب الحجيج في مكة، فتنسمنا الحب الإلهي فيها.
وفي النهاية أقول …. سلام على الحرم ومصر في موكب الزمان
1