مقالات الرأى

د. فايد محمد سعيد يكتب: في زمن الجراح المفتوحة: هل لا يزال للإنسانية بوصلة؟

 

عند دخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى يثرب، التي ستُعرف لاحقًا بالمدينة، قدّم للناس ميثاقًا اجتماعيًا في كلمات قليلة، لكنها جامعة: “يا أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام!” (رواه الترمذي). هذه الدعوة كانت إعلانًا لمنهج حياة يقوم على السلام، والعدالة الاجتماعية، والوعي الروحي. واليوم، في زمن الأزمات العالمية المتفاقمة، يبدو أن البشرية قد تخلّت عن هذا النهج، لتواجه جراحًا مفتوحة لا تندمل.

عالم يئن تحت الألم
يشهد العالم اليوم نزاعات دامية، وتفاوتًا اقتصاديًا صارخًا، وكوارث إنسانية وبيئية، وكل ذلك نتيجة لامبالاة قاسية وجشع لا حدود له. لا تزال فلسطين مثالًا صارخًا على ذلك، حيث يُقتَل الأبرياء، ومعظمهم من النساء والأطفال، أمام أعين العالم، بينما تتنصل القوى الكبرى من مسؤولياتها الأخلاقية والقانونية. كيف يمكن الحديث عن العدالة وحقوق الإنسان بينما يُمارس التغاضي الانتقائي عن المآسي؟

فقدان البوصلة الأخلاقية
إن الأزمة الحقيقية ليست فقط في الدمار المادي، بل في انهيار الحس الإنساني والضمير العالمي. في الماضي، واجه الرسل والمصلحون تجاهلًا وسخرية، لكنهم لم يتراجعوا عن رسالتهم في نشر الحكمة والرحمة والعدالة. واليوم، نحن بحاجة إلى استعادة هذه القيم لمواجهة التحديات الكبرى، مثل الفقر، والانقسامات الثقافية، والتدهور البيئي، والنزاعات الطائفية.

مسؤوليتنا الجماعية
في عصر العولمة، لم يعد بإمكاننا الانعزال في حدودنا الوطنية أو الدينية الضيقة، بل يجب أن نفكر عالميًا ونتصرف بروح المسؤولية المشتركة. الإسلام نفسه يحمل هذا الطابع العالمي، كما قال تعالى: “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين” (الأنبياء: 107). الرحمة هنا ليست مجرد تعاطف سلبي، بل التزام بالسعي نحو العدالة، ومواجهة الظلم، ونشر ثقافة السلام.

الحل في دائرة الفضيلة
الإيمان ليس مجرد عقيدة نظرية، بل يجب أن يتحول إلى عمل وممارسة. حينما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم “أفشوا السلام”، لم يكن يقصد مجرد التحية، بل نشر ثقافة السلام والمصالحة. وحينما قال “أطعموا الطعام”، لم يكن يقصد الصدقة العشوائية، بل ترسيخ العدالة الاجتماعية ومكافحة الجوع والفقر. وأما “صلوا بالليل والناس نيام”، فهي دعوة للتأمل واليقظة الروحية التي تحصّن الإنسان من الغفلة الأخلاقية.

خاتمة: هل نعيد اكتشاف البوصلة؟
العالم اليوم كالسفينة التي حذر منها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديثه عن القائم على حدود الله: إذا تُرك الظالمون يعبثون دون محاسبة، فسيغرق الجميع. إن استعادة العدالة والرحمة والتفاعل الإنساني ليست رفاهية، بل ضرورة وجودية. وكما أمرنا الله: “اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ” (المائدة: 8). فهل نحن مستعدون لإعادة اكتشاف بوصلتنا الأخلاقية قبل فوات الأوان؟

زر الذهاب إلى الأعلى