د. عبد الراضي رضوان يكتب: تجليات المحبة بين الحب الإلهي والحب العذري
الحب الإلهي حقيقة وجودية تأصلتْ بقول الله تعالى في كتابه العزيز : ( فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ) ، وفي حديثه القدسي ( لايزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أُحبّه فإذا أحببتُه كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ).
ورغم ذلك ارتبطت في فكرنا القديم والمعاصر بالتصوف ؛ لأن الصوفية ورائدتهم رابعة العدوية شهيدة الحب الإلهي كانت أول مَنْ استخدم كلمة الحب بمضمون مغاير لمضمونها الحسي أو العذري لتعبِّر عن العاطفة المتأججة في قلوب العارفين بالله تجاهه.
وقد وجد الصوفية أنفسهم مضطرين في محاولتهم التعبير عن مكنون حبهم لله من أشواق ووجْدٍ ولهفة وأُنْسٍ إلى توظيف اللغة الشِّعْرية التي استعملها شعراء الحب العذري من قبل هم وإن اتخذت تلك اللغة لدى الصوفية دلالة خاصة .لسببين :
الأول : أن المحبوب في الحب الإلهي ذو طبيعة متفردة : ( ليس كمثله شيئ ) ، فطبيعته تختلف تماما عن المحبوب في الحب العذري وإن كانت اللغة الشعرية قد فرضت التقارب أو التشابه أو أحيانا التطابق في ألفاظ التعبير عن ذلك الحب ، أو عن رموزه مثل ليلى وسلمى وعبلة وبثينة وعزة ، أو عن آثاره كالشوق واللوعة والوجد والحنين .
الثاني : اختلاف طبيعة المحبة ذاتها كما يقول القشيري : ( وليست محبة العبد له سبحانه متضمِّنة مَيْلا إذ كيْفَ وحقيقة الصمدية مقدسة عن اللحوق والدرك والإحاطة ).
لذلك تبقى فوارق واختلافات عديدة وبَون شاسع بين الحب الإلهي والحب العذري وتجلياتهما ، تتمثل في :
أولا : الاغتراب وشكوى البِعاد في الحب العذري على العكس من الحضور والقرب في الحب الإلهي.
يقول الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي :
ما لمجنون عامرٍ مِن هواه
غير شكوى البعاد والاغتراب
وأنا ضده فإنّ حبيبي في خيالي فلم أزَلْ في اقتراب
فحبيبي منِّي وفيَّ وعندي
فلماذا أقول ما بي وما بي ؟
فبينما يشكو المحب العذري اغتراب محبوبه وبعده عنه وجودا أو زمانا أو مكانا :
أين من عيني حبيبٌ ساحرٌ
فيه نُبْلٌ وجلالٌ وحياء
فإن المحبوب الإلهي قريب غاية القرب : ( فإني قريب ) ، ومحبه وحبيبه يستشعر ذلك القرب ويعايشه معايشة الاستغراق والذوبان كما عبَّر عن ذلك الحلاج :
أدنيتَني منك حتى ظننتُ أنك أنِّي
وغبتُ في الوجد حتى
أفنيتَني بك عني
يا نعمتي في حياتي
وراحتي بعد موتي.
ثانيا : التصريح والكتمان ،
فبينما يصرح المحب العذري بمكنون حبه حتى لو كان ثمن ذلك حرمانه من الزواج بمحبوبه ، فإن المحب الصوفي يحرص على كتمان حبه ولو مات بالوجد كما قال أبو بكر الشبلي:
باحَ مجنونُ عامرٍ بهواه
وكتمتُ الهوى فمتُّ بوجدي
فإذا كان في القيامة نُودِيَ
مَنْ قتيلُ الهوى تقدمتُ وحدي.
ثالثاً : سرُّ المحبة
سرُّ المحبة في الحب الإلهي هي الإحسان سواء أكان من جهة المحبوب الذي يستشعر المحب نعمته وفضله وإحسانه مما يستوجب الشكر والمحبة ، أم من جهة المحبوب الذي يريد من الحب أن يرتقي به في العبادة والطاعة إلى أسمى المراتب الدينية التي فرضها المحبوب وهي مرتبة الإحسان بأن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
ولذلك تُعدُّ المحبة لدى الصوفية أسمى مقامات العارفين .
أما سرُّ الحب العذري فمختلف جدا إذ قد يكون المعاناة والتعذيب وقد يكون مدخله الإساءة أو العداوة وليس الإحسان كما عبَّر جميل بن معمر عن مبتدأ قصة حبه لبثينة بالشتائم والسباب :
وأولُ ما قاد المودةَ بيننا
بوادي بغيضٍ يا بُثينُ سبابُ
وقلنا لها قولا فجاءتْ بمثله
لكُلِّ كلامٍ يابُثينُ جوابُ.
رابعاً : جدلية الروح والجسد
فالحب الإلهي لايكون إلا بتحرير الروح من سطوة الجسد ومن عوالم المادة بشهواتها ورغباتها ليكون المحب أهلا لمعايشة ملكوت الروحانية والقداسة.
تلك المعايشة التي تختلف مقاييسها الوجدانية والشعورية كما قال جلال الدين الرومي في تجربة الحب الإلهي لديه مخاطبا المحبوب :
لا أراك ولكني ألقاك
فرؤية العين رؤية
ورؤية القلب لقاء.
أما الحب العذري وإن غلبت عليه العفة إلا أنه بحكم الطبيعة الإنسانية سعي دائم لأجل الوصال واللقاء والتلاقي الجسدي حتى أن المحب لا يتوقف عن ذلك الطلب في الصلاة مما شكا منه عروة بن حزام :
أصلِّي فأبكي في الصلاة لذِكْرها
لي الويلُ مما يكتبُ المَلَكان
فلو كان الحب العذري روحانيا خالصا متجردا ما كان قد احتاج إلى الانجذاب إلى روحاني آخر وهو يعايش روحانية الصلاة.
ولكن الجسد الطينيّ في ثنائية الطبيعة الإنسانية يفرض عليها النزوع نحو التماس السعادة في جمال الصورة والحس في المحبوب بل والتحدي بذلك كما فعل قيس بن الملوح :
فإنْ كان فيكم بَعلُ ليلى فإنني
وذي العرش قد قبَّلْتُ فاها ثمانيا
أو تمنَّي حدوث ذلك إن لم يكن قد أَدرَكه كما وقع للأعرابي الذي تمنى دوام البكاء طوال العمر كي يظفر بالتحنان من الذلفاء :
ياليتني كنتُ صبياً مُرضَعا
تحْمِلُني الذلفاءُ حولا أكتعا
إذا بكيتُ قبَّلتْني أربعا
إذاً ظللتُ الدهر أبكي أجمعا
خامساً : الإمامة في الحب والهوى
لم يدَّع أحدٌ الإمامة في الحب العذري بل اختلف المؤرخون حول أغزل بيت قالته العرب.
لكن الأمر على خلاف ذلك في الحب الإلهي فلئن كانت رابعة العدوية شهيدة العشق الإلهي ورائدة المحبين إلا أن إمامة المحبين وسلطنة العاشقين في الحب الإلهي هي دون منازع لعمر بن الفارض سلطان العاشقين وإمامهم الذي أعلن من قاهرة المعز إمامته العظمى بنفسه ولم يعارضه فيها معارض منذ ٧٨٩ عاما.
وقد تدرَّج في إعلانه نفسه سلطانا للعاشقين وإماما للمحبين :
١. فبدأ بإعلان نسخ آيات العشاق قبله :
نسختُ بحبي آيةَ العشق مِن قبلى
فأهل الهوى جندي وحُكْمي على الكل
٢. لخَّص المحبة واختزل المحبين في شخصه فهو يعادل كل المحبين وهو سلطان حاكم عليهم :
كلُّ مَنْ في حِماك يهواك لكن
أنا وحدي بكل مَنْ في حماكا
يُحشَر العاشقون تحت لوائي
وجميع المِلاح تحت لواكا .
٣. تأسيس نوع جديد غير معهود من المحبة :
غرستُ لأهل الحب غصناً من الهوى
ولم يك يدري ما الهوى أحدٌ قبلي
وكلُّ جميع العاشقين هواهم
إذا نسبوه كان ذلك من الأصل.
٤. حصر إمامة المحبين في شخصه وحصر المرجعية التأسيسية في تعليم وتعلم الهوى في علمه :
وكلُّ فتى يهوَى فإنّي إمامه
وإنّي بريئ من فتى سامع العَذْل
ولي في الهوى عِلْمٌ تجِلُّ صفاتُه
ومَنْ لم يُفقِّهه الهوى فهو في جهل