د. خالد غانم يكتب: إذا غلا شيء تركته

حينما تكون الدراما – بأنواعها المتباينة – هادفة،، ذات مصداقية وشفافية في عناصرها الثمانية وولائيةً لقصد الوعي، وهدف الإنارة، وقتذاك تشكل جانبًا مهمًا من جوانب بناء الإنسان، وتشكيل الوعي المجتمعي، ويكون الفن رسالة مفادها الولاء للقيم الإنسانية والدينية، والإخلاص للوطن.
إذ لا يختلف اثنان في أن كل مرحلة يمر بها الإنسان – على المستوى الشخصي والخاص- أو يمر بها المجتمع – على المستوى العام – يعتريها خطوب، وتنتابها أزمات.
ويبقى عامل الاقتصاد هو المسيطر، وعنصر الغذاء هو المحرك، فتنفعل النفوس حينما تراقب السلع وأسعارها، وعقولهم تبقى مستنكرة، طالما وجدت مزايدة أو مغالاة أو احتكارًا .
ويحضرني الحوار الفلسفي والاقتصادي في فيلم البيضة والحجر، الذي يقدم استراتيجية التعامل مع من لا يرحمون المجتمع حين عرضهم للسلع بيعًا وشراءً واقتضاءً، وهذا الحوار بطله الفنان الرائع أحمد زكي فيقول:
إذا فسدت البيئة فلا بد للإنسان أن يحتمي بعقله لينجو من الفساد..
بأن يجعل عقله مسيطرًا على شهواته والمتحكم في رغباته، ويتحقق ذلك بالحد من الاستهلاك؛لأن الإنسان بطبعه عاملًا مستهلكًا، وإذا زاد معدل استهلاكه لدرجة النهم وعدم الشبع مهما كانت الكميات المتاحة أمامه، سيفسد ذلك حياته، وذلك لتحولها إلى قلق وصراعات وانحرافات ستفقده طعم الإحساس باللذات التي ينساق خلفها.
وهذا الحوار يسهم في خلق استراتيجية هادفة للتعامل مع الأزمات، حتى الخروج من ردهة الاحتكار وأثافي الغلاء.
وفي نفس الفيلم يقدم الفنان المفعم بالشعور المجتمعي أحمد زكي خطة مفادها إيحاء البائع المغالي في ثمن السلعة بترك الشراء والاستغناء عن المعروض، ويستشهد ببيت قاله الشاعر محمود الوراق:
وإذا غَلَا شيءٌ عليَّ تركتُهُ
فيكون أرخَصَ ما يكونُ إذا غَلَا
في قصيدته التي قال فيها:
إني رأيتُ الصبرَ خير مُعَوَّلٍ
في النائباتِ لمَن أراد مُعَوَّلَا
ورأيتُ أسبابَ القناعةِ عُلِّقَتْ
بِعُرَى الغِنى، فجعلتُها لي مَعْقِلَا
وإذا نَبَا بي منزلٌ جاوَزْتُه
واعتَضْتُ منهُ غيرَه لي منزلَا
وإذا غَلَا شيءٌ عليَّ تركتُهُ
فيكون أرخَصَ ما يكونُ إذا غَلَا
تلكم كانت نصيحة الفاروق عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ فقد جاء في الأثر أن الناس في زمنه جاءوا إليه وقالوا :نشتكي إليك غلاء اللحم فسعره لنا ،فقال: أرخصوه أنتم ؟ فقالوا :نحن نشتكي غلاء السعر واللحم عند الجزارين ونحن أصحاب الحاجة فتقول: أرخصوه أنتم ؟ وهل نملكه حتى نرخصه ؟
وكيف نرخصه وهو ليس في أيدينا ؟
فقال قولته المشهورة :”اتركوه لهم” إن عمر رضي الله عنه وضع لنا قاعدة اقتصادية بسيطة، ولكنها كبيرة النفع وهي الموازنة بين الطلب والعرض، فإذا كان الطلب أقل من العرض , فإن الباعة يتوجهون إلى خفض أسعارهم .
فهل نعمل بوصية عمر ـ رضي الله عنه ـ للتغلب على ارتفاع الأسعار الذي أرهق الكثيرين منا؟ فقائمتنا في الغالب تحتوي على الكثير من البذخ والترف الذي يثقل كواهلنا، ونحن نستطيع توفير الكثير من أموالنا بالإستغناء عن سلع ثانوية أو التقليل منها، كما تذكر كتب التاريخ أنه ” قيل لإبراهيم بن أدهم: إن اللحم قد غلا !!.
فقال: أرخصوه أي: لا تشتروه؛
ويطرح علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ بين أيدينا نظرية أخرى في مكافحة الغلاء، وهي تبديل السلعة بسلعة أخرى ؛ فقد غلا الزبيب بمكة فكتب لهم أن أرخصوه بالتمر ؛ لأنهم إذا فعلوا ذلك فسوف يقل الطلب على الزبيب فيرخص.
إن المستهلك قد يزيد من الأزمة حينما يعيش منهومًا في المعروض، أو يتكاسل فلا يكلف نفسه بالبحث عن مواطن يتعامل فيها أصحاب المتاجر بالتراحم في الأسعار، فلا نشتري سلعة من أصحاب المتاجر الذين يستغلون الناس بسبب بُعْد المسافة، أو لأنه لا يوجد غيره،
وإن مراقبة الأسعار ضرورة تضامنية ، وقد وضع الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم قاعدة أصيلة للبيع والشراء فقال “رحم الله رجلًا سمحًا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى”،